في غزة، لا يأتي الموت دائمًا بصاروخٍ مباشر، أحيانًا يتسلّل بصمتٍ من بين الشقوق، أو يسقط فجأة من سقفٍ أنهكته الحرب والمطر معًا. هكذا رحل مهدي الحلو، المعروف بين أهالي مخيم الشاطئ بـ“أبو صقر”، عن عمرٍ ناهز 56 عامًا، تاركًا خلفه سيرة رجلٍ عاش للناس ومات وهو يؤدي أكثر مهامه شرفًا: إصلاح ذات البين.
أبو صقر، أبٌ لستة أفراد، وواحد من أولئك الرجال الذين لم يحملوا لقبًا رسميًا، لكنهم حملوا ثقة الناس ومحبتهم. في الأزقة الضيقة لمخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، كان اسمه يُذكر كلما اشتعل خلاف، أو تعقّدت مشكلة، أو احتاج الجيران إلى عقلٍ راجح وكلمةٍ جامعة. اختاره الناس مختارًا لمنطقته، لا بقرارٍ مكتوب، بل بإجماع القلوب.
يقول نجله صقر الحلو، وهو يحاول أن يوازن بين الحزن والفخر لصحيفة "فلسطين": “أبي لم يكن يعرف الراحة، حتى في الحرب. كان يرى أن الناس في هذه الظروف أحوج ما يكونون لمن يجمعهم لا لمن يزيد وجعهم”.
في ليلة المنخفض الجوي الأخير، حين اشتدت الرياح وغمرت الأمطار الخيام والمنازل المتهالكة، كان أبو صقر يقف أمام بيته، يراقب السماء القاتمة ويطمئن على الجيران. فجأة، ناداه أحدهم بصوتٍ متوتر، يستنجد به للحضور فورًا. خلافٌ تفجّر بين جيران بسبب تسييل مياه الأمطار، بعد أن تسربت كميات كبيرة إلى منزلٍ متضرر أصلًا من قصفٍ إسرائيلي سابق.
لم يكن أبو صقر يعلم أن تلك الخطوات القليلة خارج بيته ستكون الأخيرة. “أحد الجيران سمع طقطقة في سقف البيت”، يروي صقر، “الصوت كان مخيفًا، والسقف متشقق من القصف القديم، ومع المنخفض والمياه التي تسيل من فوقه، تفاقمت المشكلة. حصل خلاف بينهم، وكعادتهم، نادوا أبي”.
كان مهدي الحلو يملك خبرة قديمة في مهنة “الطوبار”، عرف البيوت، وأسرار الخرسانة، ونقاط ضعفها. دخل المنزل وهو يحاول أن يهدئ النفوس قبل أي شيء. بدأ يتحدث بهدوء، يشرح، ينصح، يقترح حلولًا لتصريف المياه، ولإنهاء الخلاف دون خصام.
يقول صقر: “أبي كان دائمًا يقول: المشكلة تبدأ بكلمة، وتنتهي بكلمة، فلا تجعلوها تكبر”.
لكن الحرب، كما يقول أهل غزة، لا تكتفي بما فعلته الطائرات. آثارها تلاحق الناس حتى في تفاصيل حياتهم اليومية. سقفٌ متصدع، أُنهك بالقصف، ثم أرهقته مياه المطر، لم يحتمل أكثر. فجأة، انهار الباطون.
"حاول الجميع الهرب"، يتابع صقر، "الكل ركض، لكن القدر كان أسرع من أبي".
سقط السقف على أبو صقر، لينهي حياته في لحظة، وهو واقف بين الجيران، لا يحمل سوى نية الإصلاح. لم يكن ضحية غارة مباشرة، لكنه كان واحدًا من ضحايا الحرب بكل ما تعنيه الكلمة: ضحية بيتٍ قُصف، ولم يُرمم، ومطرٍ كشف هشاشة ما تبقى، وواقعٍ يُجبر الناس على العيش تحت أسقفٍ مهددة في كل لحظة.
في مخيم الشاطئ، انتشر الخبر بسرعة. لم يكن خبر وفاة عادي. “أبو صقر مات”، جملة وقعت كالصاعقة. خرج الجيران، تجمّع الرجال، بكت النساء، وساد صمتٌ ثقيل في الأزقة التي طالما شهدت خطواته.
"الناس فقدت رجل صلح"، يقول أحد جيرانه، “كان يدخل البيوت المتخاصمة ويخرجها متصافحة. ما عمره غادر مشكلة قبل أن يحلها".
ستة أفراد، زوجة وأبناء، باتوا فجأة بلا سند. لكنهم ورثوا اسمًا ثقيلًا بالمحبة. "نحن فخورون به"، يقول صقر، "وجعنا كبير، لكن عزاءنا أن أبي مات واقفًا على مبادئه، كما عاش".
رحيل مهدي الحلو أعاد إلى الواجهة مأساة أخرى من مآسي غزة المنسية: بيوت متضررة لم تُرمم، وأسر تعيش تحت خطر الانهيار في كل منخفض جوي، في ظل حصار يمنع مواد البناء، وحرب دمّرت كل شيء وتركت الناس يواجهون مصيرهم وحدهم.
لم يكن أبو صقر يبحث عن بطولة، ولم يحمل سلاحًا، لكنه حمل ما هو أثقل همّ الناس. رحل لأن الحرب لم تنتهِ عند القصف، بل امتدت إلى السقوف، والجدران، والمطر.
في مخيم الشاطئ، سيظل اسمه يُذكر كلما أصلح الناس خلافًا، وكلما جلس جاران وتصافحا. وسيقولون: “هكذا كان أبو صقر… عاش مصلحًا، ومات مصلحًا”.