في زاوية خيمة لا تقاوم برد الشتاء ولا حرّ الصيف، تجلس الأم هناء أبو العطا، تنظر إلى السماء التي تغيّر لونها منذ بدأت الحرب، تسند رأسها إلى جدار الخيمة المهترئة التي شهدت نزوحهم مرات متعددة، وتقول لصحيفة فلسطين:
“ما كنت متخيّلة إني في يوم أعيش غريبة في وطني، مشرّدة، بلا بيت ولا مستقبل واضح، لكن بعد اللي صار… كل شيء صار ممكن”.
لم تعد تحلم بالحياة، بل ترجو النجاة لها ولعائلتها فقط. خرجت من بيتها في حي الشجاعية تركض من موت إلى موت آخر، حتى استقرت في خيمة بحي تلّ الهوى جنوب مدينة غزة، لا تستر ولا تقي، بعد أن دُمّر بيتها وضاعت ذكرياتها، وتعذّر عليها العودة إلى مكان المنزل لوقوعه ضمن “المنطقة الصفراء” كما صنّفها جيش الاحتلال.
تسرد أبو العطا، وهي أم لخمسة أبناء، ما حدث معها في بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة قائلة: “نزحنا من حي الشجاعية تحت القصف إلى مدرسة تابعة لوكالة الأونروا في مخيم النصيرات، بشكل مؤقت”.
وتتابع: “في اليوم الثامن من نزوحنا، بتاريخ 15/11/2023، وقعت مشكلة في باحة المدرسة، فطلبت من أبنائي عدم الخروج خوفًا عليهم. وقفت على سجادة الصلاة لأداء صلاة العشاء، وقبل أن أبدأ ناديت على ماريا، ذات العشرة أعوام، فلم تُجب. توقعت أنها نائمة، ثم ناديت على أمير، كونه أكبر أشقائها، وطلبت منه أن ينتبه عليهم”.
وتكمل أبو العطا الحكاية الموجعة: “أمير وماريا، رغم خوفي وتنبيهي، ما قدروا يكبحوا فضولهم، طلعوا يشوفوا شو بيصير في الساحة. ما لحقوا يبعدوا خطوات، إلا وصاروخ نزل فوق رؤوسهم، كأن السماء قررت تخطفهم في لحظة”.
الصاروخ الذي أطلقته طائرة إسرائيلية على مدرسة تؤوي نازحين لم يميّز بين طفل وراشد، ولا بين مدني ومقاتل. وتقول: “ركضت وأنا أصرخ بأعلى صوتي، فإذا بأمير يظهر أمامي وهو يقفز على قدم واحدة ويرفع الأخرى. ألقى الله في قلبي الثبات، وبدأت أفتش جسده خوفًا من إصابته في أماكن أخرى، وبعد أن اطمأننت خرجت أبحث عن ماريا”.
لم تكن ترى أمامها سوى الدم والغبار وأجسادًا مبعثرة. بحثت عن وجوه تعرفها، فوجدت ابن شقيقة زوجها ملقى على الأرض وقد فارق الحياة، وبجانبه ابنتها ماريا نائمة على بطنها، وقد خرجت أحشاؤها. قامت بتغطيتها، ثم طُلب منهم مغادرة المدرسة خوفًا من قصف جديد.
وتضيف بصوت يختنق بين الحروف: “ما تركت هالحرب غزّي إلا وأذته… ما في بيت إلا وذاق مرارتها. سرقت منا كل شيء، حتى شعور الأمان البسيط داخل بيوتنا”.
سارت في الشارع دون أن تعرف وجهتها حتى وصلت إلى مستشفى العودة. لم تكن قد أغمضت عينيها منذ لحظة الانفجار. حملت أبناءها الصغار وهربت بهم وسط الظلام، لا شيء ينير طريقها سوى رجفة الخوف ودمعة فقدٍ لم تكتمل بعد.
تقول أبو العطا بصوت مكسور: “مشيت وأنا تاركة قلبي عند أمير، ما كنت عارفة شو مصيره، بس قلبي وجعني عليه بطريقة ما حسّيت فيها من قبل”.
كانت تبحث عن أي خبر يطمئنها. رأت المصابين الذين وصلوا مع ابنها، لكن أمير لم يكن بينهم. اقتربت من أحدهم تسأله عنه، فأخبرها أن إصابته خطيرة، وقد جرى تحويله مع مصاب آخر إلى مستشفى الأقصى.
“لما عرفت إن حالته خطيرة، حسّيت الدنيا اسودّت… تمنّيت أكون أنا اللي انصبت بداله، أمير ما بيستاهل الوجع”، تقول.
ومنذ تلك اللحظة، بدأت رحلة أخرى من الألم والقلق، بين مستشفيين، وبين رجاء أم بأن يكون ابنها حيًا، وبين حقيقة أن الحرب لا ترحم الأمهات ولا تمنح وداعًا أخيرًا.
وتقول هناء أبو العطا بصوت يغلبه الانكسار: “الحرب ما تركت فرصة نودّع. ما ودّعنا ماريا، وما بكينا زي الناس. حتى الدفن صار بسرعة، صارت مراسم الوداع كأنها مسرحية مستعجلة… بس الوجع ظلّ عالق وما مشي”.
وتكمل، وعيناها تغرورقان بالدموع: “ماريا كانت روح أختها الكبيرة، كانوا زي التوأم رغم فرق العمر. لما استشهدت، الكبيرة بطّلت تحكي، تنام وتصحى على بكاء، تصرخ وهي نايمة، تحلم فيها، وكل شيء صار يذكّرها فيها”.
وتشير هناء إلى أن الحرب لم تسرق منهم الأجساد فقط، بل خطفت أيضًا الاستقرار النفسي والعاطفي: “أنا أم، وبشوف بنتي تنهار قدامي. قلبي مقسوم بين وجعي على ماريا، وخوفي على أمير، وانهيار بنتي الكبيرة… الحرب شتّتتنا من كل جهة”.
وباتت أبو العطا تعيش وجع ابنها بدل أن تفرح بنجاته من الموت. وتكمل وهي تروي تفاصيل ما بعد إصابة أمير، نجلها البكر، الذي تحولت نجاته من القصف إلى رحلة ألم لا تنتهي: “شهرين وهو ما بينام، يصرخ من الوجع، صوته يوصل لأبعد سماء. كل غيار جروح كأنه موت جديد، وكل عملية كانوا ياخدوا جزء من رجله. وكان يحكي لي وهو مغمى عليه: ماما ابترولي إياها، ما بدي أعيش هيك”.
تحكي الأم بحرقة عن لحظات عجزها، وكيف كانت تمسك يده وتقرأ له المعوذات كلما دخل غرفة العمليات، وخوفها الدائم من أن تفقده كما فقدت ماريا.
“كان يقول لي: يا ماما يا ريتني استشهدت، أهون من الوجع… بس كيف أم ترضى تشوف ابنها بتمنى الموت؟”.
ورغم محاولات الأطباء المضنية، اتُّخذ القرار الصعب ببتر القدم اليسرى. ولم تنتهِ المأساة هنا، إذ كانت قدمه اليمنى مصابة أيضًا، وبُتر منها أحد الأصابع، ولا تزال بحاجة إلى عملية زراعة عظم، في ظل انعدام الإمكانيات الطبية في غزة.
وفي فبراير/شباط 2025، صدرت لأمير تحويلة طبية للعلاج في مصر، وبدا وكأن الأمل يولد من جديد في حياة شاب حلم بمستقبل مليء بالنجاح والفرح، لكن الواقع جاء قاسيًا.
تقول والدته، وهي تحاول كتم دموعها: “ظنّينا إن العلاج رح يرجّع له حياته، لكن من يوم ما سافر لليوم، ما تلقّى أي علاج. أيام وشهور طويلة وهو عايش في انتظار بلا نهاية، ما بعرف مصيره، وكل فترة والده يرسل مصاريف لتدبير حياته هناك”.
كان أمير في بداية مشواره الجامعي، يدرس الفصل الأول في تخصص برمجة وقواعد بيانات، تخصص اختاره بحب وقناعة. وكانت والدته تحلم برؤيته يرتدي روب التخرج، ثم يبدأ حياته العملية ويتوّجها بزفافه.
وتختم حديثها قائلة: “لكن الحرب والإصابة قلبوا كل شيء. أقعدوه وعرقلوا طريقه. اليوم، كل اللي بتمناه يرجع لي وهو قادر يعيش بحرية، يمارس حياته، ويحقق أحلامه اللي ما اكتملت”.
هكذا تقف الأسرة أمام مأساة جديدة، بانتظار استجابة للعلاج الذي قد يكون بداية لعودة أمير إلى الحياة التي سُلبت منه.