قائمة الموقع

نجوا من النزوح عشر مرات ولم ينجوا من القصف.. مجزرة تمحو عائلة الحطاب

2025-12-19T15:26:00+02:00
عائلة الحطاب
فلسطين أون لاين

يجلس الصحفي همام الحطاب شارد الذهن، يراقب تساقط الأمطار على قطاع غزة، فيما يتأمل كانون النار الذي كان يشعله شقيقه الأصغر محمد في ليالي الشتاء الباردة.

لم يعد للدفء معنى منذ السادس عشر من يناير/كانون الثاني 2025، ذلك اليوم الذي ارتكب فيه الاحتلال الإسرائيلي مجزرة مروعة أبادت عائلة شقيقه بالكامل، ومسحت أسماءهم من السجل المدني الفلسطيني.

ففي فجر ذلك اليوم، استُشهد محمد الحطاب (36 عامًا)، وزوجته جميلة الديب (31 عامًا)، وطفلاهما نسيم (6 أعوام) وتسنيم (3 أعوام)، إضافة إلى ابنة شقيقه أمل (9 أعوام)، جراء قصف إسرائيلي استهدف منزلًا ملاصقًا للمكان الذي نزحوا إليه في شارع مشتهى بمدينة غزة.

لم ينجُ أحد منهم، لتتحول الأسرة إلى رقم جديد في قائمة العائلات التي أبادها الاحتلال بالكامل.

بحث عن الأمان

وقعت المجزرة بعد ساعات فقط من إعلان وزير الخارجية القطري التوصل إلى تفاهمات لوقف إطلاق النار بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي بوساطة دولية، على أن يدخل حيّز التنفيذ في 19 يناير الماضي، لكن طائرات الاحتلال سبقت الهدنة بمزيد من القتل، وكأنها تسابق الزمن لاقتلاع أكبر عدد ممكن من الأرواح.

وكانت العائلة، وفق ما قاله همام لمراسل صحيفة "فلسطين"، قد نزحت من منزلها الأصلي في حي الشجاعية شرقي مدينة غزة، هربًا من القصف المتواصل، شأنها شأن آلاف العائلات الفلسطينية.

ويقول الحطاب إن شقيقه محمد وعائلته اضطروا للنزوح أكثر من عشر مرات منذ بداية الحرب، متنقلين بين البيوت بحثًا عن الأمان، قبل أن ينتهي بهم المطاف إلى الموت.

ويضيف بصوت مثقل بالحزن: "قصف الاحتلال منزلًا مكوّنًا من أربعة طوابق ملاصقًا للمنزل الذي كانوا فيه، فتطاير الركام والشظايا واخترق كل شيء. خلال لحظات فقدت شقيقي وزوجته وأطفاله، فيما أُصيب عدد من الأقارب والجيران بجراح متفاوتة".

لم يكن محمد مجرد شقيق، بل كان الرفيق والصديق الأقرب لهمام، الذي يروي عنه قائلًا: "كان طيب القلب، محبوبًا من الجميع، لا يرد محتاجًا ولا يتأخر عن مساعدة أحد".

ويستعيد همام ذكريات الطفولة حين اضطر محمد إلى ترك مقاعد الدراسة مبكرًا والعمل لمساعدة والده في إعالة الأسرة والإنفاق على إخوته وشقيقاته، مؤمنًا بأن التعليم هو الطريق الوحيد للنجاة.

ويمضي الحطاب بالقول: "كان محمد دائمًا يوصينا بالدراسة، ويتكفل بمصاريفنا دون تردد".

وداع عبر الهاتف

ويتابع همام حديثه، قبل أن يتوقف قليلًا وكأن الكلمات تخونه: "محمد كان توأم روحي، نحن من مواليد شهر أبريل بفارق سنة واحدة فقط. عمل في شركة أدوات كهربائية، وبنى حياته بهدوء، وحلم بمستقبل آمن لأطفاله".

أما زوجته جميلة، فكانت تنتظر بفارغ الصبر لقاء أسرتها التي نزحت إلى جنوب قطاع غزة. وقبل استشهادها بأيام، أجرت مكالمة طويلة مع والديها وإخوتها استمرت نحو خمس ساعات.

ويسترجع همام تلك اللحظة قائلًا: "كأنها كانت تودّعهم، كانت تشعر أن الفراق قريب، وأنها سترحل عن الحياة مبكرًا".

ولم تتوقف الفاجعة عند هذا الحد، فقد همام أيضًا ابنته البكر أمل (9 سنوات)، التي استُشهدت في القصف ذاته. كانت تحلم بانتهاء الحرب، وتكرر عليه بسؤال طفولي موجع: "بابا، خلصت الحرب؟". كان يطمئنها بوعد الذهاب إلى البحر بعد توقف القصف، لكنها رحلت قبل أن ترى البحر، وقبل أن يتحقق الوعد.

ويقول الحطاب: "أشعر أنني أصبحت وحيدًا بعد استشهاد محمد. كنا نخرج سويًا، نضحك، ونشعل كانون النار في أيام البرد والمطر. لم يكن يصعد إلى منزله في الطابق الثالث دون أن يمر عليّ، ولا يخرج إلا بعد أن نلتقي".

إبادة جماعية

ليست قصة عائلة الحطاب استثناءً، بل واحدة من آلاف القصص التي تكشف حجم الإبادة التي يتعرض لها سكان قطاع غزة.

ووفق بيان صادر عن المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، ارتكب جيش الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 12 ألف مجزرة منذ بدء حرب الإبادة الجماعية في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، فيما جرى محو نحو 2200 عائلة فلسطينية بالكامل من السجل المدني.

ويعكس مصطلح "العائلات التي مُسحت من السجل المدني" حقيقة دامغة تتمثل في استهداف الاحتلال لعائلات بأكملها، بحيث لا ينجو منها أي فرد، وهي جريمة تُعد انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني، وترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية الممنهجة، التي لا تقتل الإنسان فحسب، بل تمحو الاسم والذاكرة والامتداد الاجتماعي.

ففي قطاع غزة، لا يُقصف الحجر وحده، بل يُقصف التاريخ والعائلة والهوية، وعائلة محمد الحطاب مثال صارخ على ذلك: بيت دُمّر، وأسماء شُطبت، وذكريات بقيت شاهدة على مجزرة لن تُنسى.

اخبار ذات صلة