تُمثّل الأعياد اليهودية محطاتٍ مفصلية لتصعيد الهجمة التهويديّة على مدينة القدس والمسجد الأقصى؛ فقد رسخت سلطات الاحتلال وأذرعه التهويديّة الأعياد اليهوديّة، مواسم لتصعيد العدوان على القدس والأقصى، وتتعامل معها على أنها أداة استراتيجية لترسيخ التهويد، وتزييف الهوية الثقافية للمدينة، ومحاولة طمس وجودها البشري الفلسطيني الأصيل. ويبرز عيد "الأنوار/الحانوكاه" كأنموذج واضح لهذا التوظيف؛ حيث يستغل الاحتلال امتداده الزمني ومظاهره الاحتفالية لفرض هيمنة الرواية الصهيونية قسرًا في الفضاء العام للمدينة. ويأتي العيد هذا العام في الفترة ما بين 14/12/2025 و22/12/2025، مُنذراً بموسمٍ جديد من العدوان الممنهج.
تعريف "الحانوكاه"، وأبرز طقوسه
تحمل كلمة "الحانوكاه" بالعبرية معنى "التدشين"، في إشارة إلى تدشين "المذبح" في "المعبد" المزعوم، ويُطلق عليه عيد "الأنوار" ففيه "الفرحة بإعادة عبادة الرب في بيت المقدس"، وهو من الأعياد القليلة التي تحمل مظاهر فرح لدى اليهود، ويستمر هذا العيد ثمانية أيام، وبحسب موسوعة اليهود واليهوديّة للراحل د. عبد الوهاب المسيري رحمه الله، لم يفرض التوراة هذا العيد، بل ابتدعه الكهنة. ويرتبط عيد "الحانوكاه" برواية يهودية عن انتصار الحشمونيين على الإغريق في القرن الثاني قبل الميلاد، واستبدال الحكم اليوناني بحكم يهودي في القدس. وإعادة للشعائر اليهودية في "المعبد". أما عن طقوس العيد فتتضمن الرواية اليهوديّة تفاصيل كثيرة مرتبطة بالشمعدان، لذلك صُمِّم "شمعدان مينوراه" خاص بهذا العيد، وله تسعة أفرع، فتُوقَد شمعة في الليلة الأولى من العيد، ثم تُضاف شمعة ثانية في اليوم التالي، ويتم إضافة شمعة جديدة مع كل يوم من أيام العيد حتى اليوم الثامن، إضافةً إلى الصلوات الخاصة بهذا العيد.
انعكاسات "الحانوكاه" على القدس والأقصى
نتيجة ارتباط "عيد الحانوكا" بإنارة الشمعدان، يشهد المسجد الأقصى بالتزامن مع هذا العيد محاولات لإدخاله إلى الأقصى، وإضاءته في المسجد، وهو ما يجري في ساحة البراق المحتلّ، إذ يتم نصب شمعدان ضخم ويتم إضاءته طيلة أيام العيد، ومع عدم استطاعة المستوطنين إدخال الشمعدان إلى الأقصى خلال الاقتحامات، فإنهم يستعيضون عن ذلك بإشعال "الولاعات" أو الشموع خلال اقتحاماتهم، ففي 10/12/2023 أضاء عددٌ من المستوطنين 3 شمعات في ساحات الأقصى الشرقية، في إشارة إلى اليوم الثالث من العيد، وفي 1/1/2025 اليوم السابع "للحانوكاه"، اقتحم المسجد الأقصى 746 مستوطنًا، وشهد هذا اليوم سلسلة من الاعتداءات، أبرزها أداء الطقوس اليهودية في الساحات الشرقية، وإضاءة ثماني شموع صغيرة على أحد جدران المنطقة الشرقية، في تكرار هو الثالث خلال السنوات الماضية وفق مصادر مقدسية.
وعلى غرار الأعياد اليهوديّة، *يشهد الأقصى جملة من الاعتداءات، من بينها محاولة إشراك المزيد من المستوطنين في اقتحام الأقصى، والمشاركة الحاخامية والرسمية في هذه الاقتحامات*، وما يتصل بها من أداء للطقوس اليهوديّة الجماعية في ساحات المسجد الشرقية، وأداء الرقصات والغناء خلال الاقتحام، إلى جانب الرقصات الليليّة في أزقة البلدة القديمة وأمام أبواب الأقصى، إضافةً إلى تنظيم مسيرةٍ ليلية تجول في أرجاء البلدة القديمة، وتمرّ أمام أبواب المسجد الأقصى، وإضاءة الشمعدانات في ساحة حائط البراق المحتلّ، ومناطق عدة في البلدة القديمة من القدس المحتلة.
"الحانوكاه" وتزييف الهوية الثقافية للقدس
لا تقف آثار هذا العيد عند العدوان على الأقصى فقط، إذ تستهدف أذرع الاحتلال هوية القدس وما يتصل بمظهرها العام خلال العيد، فمع ارتباط العيد بالشمعدان، وإضاءة الشموع وما إلى ذلك، تعمل أذرع الاحتلال التهويديّة وخاصة بلديته في القدس على إضفاء طابع يهوديّ على المدينة بذريعة الاحتفال بالعيد، ومن أبرز الفعاليات التهويديّة التي تقوم بها البلدية ما يأتي:
- العروض الضوئية وإضاءة سور القدس التاريخي، إذ تعمل بلدية الاحتلال على إقامة عروض ضوئية متطورة على سور القدس الذي يحيط بالبلدة القديمة، ووضع صور وأشكال تهويديّة، ترتبط برواية الاحتلال حول القدس، والعناصر التهويديّة الأخرى. وإلى جانب هذا الأمر تنظم البلدية عروضًا أخرى في عددٍ من المواقع، تترافق مع الموسيقى والأغاني الخاصة بهذا العيد، وتُسمع عادةً حتى في المناطق التي يقطنها الفلسطينيون.
- نشر أعداد كبيرة من "الشمعدانات" في القدس المحتلة، إذ تضع بلدية الاحتلال شمعدانات ضخمة مضاءة في ساحة حائط البراق المحتلّ، وفي مناطق أخرى داخل البلدة القديمة وفي خارجها.
- تعمل أذرع الاحتلال على تزيين الساحات العامة والشوارع المحيطة بالأضواء، خاصة في الشطر الغربي من القدس المحتلة، وفي الأحياء التي تشهد وجودًا استيطانيًا كثيفًا في الشطر الشرقي من المدينة.
العدوان على القدس في عام 2025
ومع حلول "الحانوكاه" في الأيام الماضية، بدأت أذرع الاحتلال بتصعيد عدوانها على المدينة المحتلة، فقد استبقت "منظمات المعبد" حلول هذا العيد عبر دعوة أنصارها وجمهور المستوطنين إلى المشاركة في اقتحامات الأقصى، وشهدت الفترة ما بين 15 و17/12/2025 تصاعدًا تدريجيًا في أعداد مقتحمي الأقصى، فقد ارتفعت من نحو 220 في اليوم الأول من العيد، إلى نحو 370 مستوطناً في يومه الثاني، وصولًا إلى نحو 380 مستوطنًا في اليوم الثالث من العيد. وترافقت هذه الاقتحامات، مع أداء المستوطنين لطقوس اليهوديّة العلنية، إلى جانب الرقص والغناء في ساحات الأقصى، والشرقية منها على وجه الخصوص، وإقامة حفل زفاف لمستوطنة، في مشهد يعكس استباحة كاملة لقدسية المكان.
ولم يقف الحد عند الاقتحام البشري، بل تجاوزه إلى محاولة تأسيس طقوس مكانية، تمثلت في إشعال الشموع داخل المنطقة الشرقية قرب مصلى باب الرحمة، وأمام باب القطانين.
هذا الحراك الاستيطاني حظي بغطاء سياسي رسمي مباشر؛ إذ شارك رئيس بلدية الاحتلال في الدقس، ومن ثم رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو، في طقوس إشعال الشموع عند حائط البراق المحتلّ، رافقه خلالها السفير الأمريكي لدى الكيان مايك هوكابي. أما على صعيد التهويد الثقافي والعمراني فقد نظمت بلدية الاحتلال عروضًا ضوئية لسور القدس التاريخي، وخاصة في المنطقة الواقع قرب باب الخليل وساحة باب الحديد، وعرضت شعارات "الشمعدان ونجمة داود"، وعبارات التبريك بحلول "الحانوكاه".
ختاماً، لا يمكن قراءة تفاصيل المشهد في القدس خلال عيد "الحانوكاه" لهذا العام بمعزلٍ عن استراتيجية الحسم التي يتبناها الاحتلال، ويسعى إلى المضي قدمًا بها، إذ لم تعد الأعياد اليهودية سوى محطات لتصعيد العدوان، وفرض المزيد من الوقائع في المدينة المحتلة، وأداة أساسية لفرض السيطرة الكاملة على الأقصى بقوة الأمر الواقع. وتؤكد الاعتداءات آنفة الذكر تكامل الأدوار ما بين المنظمات المتطرفة والمستويات السياسية والأمنية لدى الاحتلال، وتوظيف مختلف الأدوات لفرض هوية دخيلة على القدس، على الصعد الثقافية والعمرانية وغيرها. وهي معطيات تؤشر إلى ضرورة استعادة زمام المبادرة في القدس والأقصى، وضرورة قيام الجماهير بدورها في التصدي لهذا التغول الصهيوني، الذي يتصاعد مع غياب ردود الفعل القوية والحازمة.