على الرغم من مرور أكثر من شهرين على دخول اتفاق وقف إطلاق النار في غزة مرحلته الأولى، فإن الاحتلال الإسرائيلي لا يزال يتهرب من دفع استحقاقاتها الأساسية، وفي مقدمتها فتح المعابر، وتخفيف القيود الإنسانية، والالتزام بالمسار الزمني الذي يقود إلى المرحلة الثانية.
هذا التعطيل لا يمكن فصله عن السياق السياسي الأوسع، سواء داخل (إسرائيل) أو على مستوى العلاقة مع الولايات المتحدة والوسطاء الإقليميين.
فالاحتلال يتعامل مع الاتفاق بوصفه أداة لإدارة الأزمة لا لإنهائها، فيما يحاول رئيس حكومته بنيامين نتنياهو استخدام المرحلة الأولى كفترة سماح سياسية وأمنية، يخفف خلالها الضغوط الدولية دون أن يلتزم بتقديم أثمان استراتيجية قد تقيّد يده لاحقًا.
على الأرض، يدفع سكان غزة ثمن هذه المماطلة مضاعفًا، إذ تتعطل المساعدات الإنسانية، ويُستخدم ملف المعابر كورقة ابتزاز سياسي، فيما تبقى التهدئة هشة وقابلة للانهيار في أي لحظة. أما على المستوى الإقليمي، فتجد الدول الوسيطة، وعلى رأسها مصر، نفسها أمام اختبار صعب بين الحفاظ على مسار الاتفاق، ومنع الاحتلال من تفريغه من مضمونه الإنساني والسياسي.
يؤكد د.أحمد فارس عودة، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القدس، أن هناك أزمة حقيقية بين واشنطن و(تل أبيب) على خلفية خروقات الاتفاق.
ويشير عودة لـ "فلسطين أون لاين" إلى أن الاجتماع الذي عقد في (تل أبيب) بين جاريد كوشنير وبنيامين نتنياهو عكس حالة استياء أمريكي واضحة من سلوك حكومة الاحتلال الإسرائيلي، حيث تم إبلاغ نتنياهو، وفق عودة، بأن "من يريد إساءة السمعة فهو نتنياهو وحده وليس ترامب"، في إشارة إلى أن واشنطن لا تريد أن تُحسب خروقات الاتفاق على الإدارة الأمريكية.
ويضيف عودة أن الرئيس الأمريكي نفسه عبّر عن استياء مباشر من مواقف نتنياهو، ما يفتح الباب أمام ضغط أمريكي حقيقي خلال الأيام المقبلة، خاصة على صعيد تغيير آلية تنفيذ المرحلة الأولى.
ويرى عودة أن إصرار الاحتلال على ربط تنفيذ الاستحقاقات بتسليم "الجثة الأخيرة" ليس سوى ذريعة سياسية لتعطيل الانتقال إلى المرحلة الثانية.
وبحسب تقدير عودة، الولايات المتحدة تسعى للضغط باتجاه إتمام هذا الملف، مقابل فتح معبر رفح، والالتزام ببقية بنود الاتفاق الإنسانية والسياسية.
لكن المشكلة الجوهرية، كما يوضح، أن نتنياهو لا يريد الذهاب إلى مرحلة ثانية أو ثالثة، لأنه يسعى إلى الاحتفاظ بحق القصف والقتل "وقت ما شاء"، دون قيود سياسية أو قانونية.
حسابات نتنياهو الانتخابية
في قلب هذا التعطيل تقف الحسابات الشخصية لرئيس حكومة الاحتلال. فنتنياهو، وفق عودة، يريد كسب الوقت لأطول فترة ممكنة، حتى تقترب الانتخابات، ويقدّم نفسه للداخل الإسرائيلي على أنه "البطل القومي" الذي لم يقدّم تنازلات لغزة. إلا أن عودة يستدرك بالقول إن هذه الخطة "لن تسير كما هو مخطط لها"، في ظل الضغوط الدولية المتراكمة.
ويشير عودة إلى تحرك مصري لافت خلال الأيام الماضية، مؤكداً أن القاهرة لم تألُ جهداً في الضغط باتجاه تنفيذ الشق الإنساني من الاتفاق.
ويستشهد باجتماع عقدته المخابرات المصرية مع الاحتلال، تحدثت فيه مصر عن ضرورة فتح معبر رفح، وضمان تدفق المساعدات، وإنهاء التعطيل المتعمد.
ويذهب عودة أبعد من ذلك، محذراً من أنه في حال تعقّدت الأمور، قد تتخذ مصر موقفاً أكثر صلابة تجاه (إسرائيل)، قد يصل – وفق تقديره – إلى خطوات تتعلق بالمنطقة الحدودية المنصوص عليها في اتفاق كامب ديفيد، أو زيادة الضغط السياسي لفرض فتح المعبر.
مسؤولية الوسطاء
إلى ذلك يشدد عودة على أن المطلوب حالياً هو تحرك منظم للوسطاء عبر تشكيل لجنة مشتركة تتوجه مباشرة إلى الولايات المتحدة، بصفتها الراعي الأساسي لهذه المرحلة، وعضواً دائماً في مجلس الأمن. ويرى أن على واشنطن مسؤولية مباشرة في إجبار (إسرائيل) على فتح معبر رفح، والسماح بسفر المرضى، وإدخال الخيام والمساعدات، باعتبار ذلك اختباراً حقيقياً لجدية رعايتها للاتفاق.
في المحصلة، تتقاطع قراءة د. أحمد فارس عودة مع الوقائع الميدانية لتؤكد أن ممارسات الاحتلال تهدف بشكل واضح إلى تعطيل الاتفاق، لا إلى تطبيقه.
فعدم دفع استحقاقات المرحلة الأولى ليس حدثاً عرضياً، بل جزء من استراتيجية إسرائيلية لإبقاء غزة في حالة "لا حرب ولا سلام"، وإفراغ أي مسار سياسي من مضمونه.
وبين ضغط أمريكي يتصاعد، ودور مصري أكثر وضوحاً، ومحاولات نتنياهو للهروب إلى الأمام، تبدو الأيام المقبلة مفصلية: إما فرض تنفيذ الاتفاق والانتقال إلى المرحلة الثانية، أو انهيار التهدئة تحت وطأة المماطلة الإسرائيلية، مع ما يحمله ذلك من تداعيات إنسانية وسياسية خطيرة.

