قائمة الموقع

عائلة "سالم".. نظرة وداع وجرح يُغلق بعد عامين من الانتظار

2025-12-17T07:38:00+02:00
شهداء من عائلة سالم تم انتشالهم من تحت أنقاض منزلهم الذي دمره الاحتلال خلال الإبادة الجماعية في غزة
فلسطين أون لاين

على رفاة وبقايا عظام وجثامين متحللة، انتُشلت من تحت أنقاض مبنى مدمّر احتمت فيه العائلة بجوار برج شوا وحصري بمدينة غزة، ألقى الناجون من عائلة سالم نظرة الوداع الأخيرة على نحو 47 شهيدًا ظلّوا تحت الأنقاض لعامين متواصلين، لتُغلق العائلة جرحًا مفتوحًا ظلّ ينزف في قلوب الناجين من المجزرة التي استُشهد خلالها 94 فردًا من العائلة، جلّهم من الأطفال والنساء، في مجزرة دامية وقعت مساء 18 ديسمبر/كانون الأول 2023.

في منزلٍ لعائلة أبو رمضان، يقع بجوار برج شوا وحصري بمدينة غزة، احتمى نحو 117 فردًا من عائلة سالم مع بداية حرب الإبادة.

تجمع الإخوة وأبناء العم في المنزل هربًا من الموت الذي لاحقهم في شمال القطاع وشرقه وغربه ووسطه، إلا أن الدبابات الإسرائيلية وصلت إلى المكان أيضًا، وهدمت سور المنزل ثم انسحبت.

ومع الانسحاب تنفّس أفراد العائلة الصعداء وهدأت مخاوفهم مؤقتًا، لكن عند الساعة الحادية عشرة مساءً، قصفت طائرات الاحتلال المنزل بأربعة صواريخ، حوّلته إلى قبر جماعي.

صباح أول من أمس، كان هشام سالم وأفراد عائلته يراقبون عمل طواقم الدفاع المدني وفرق الأدلة الجنائية، التي باشرت إزالة ركام المنزل في أولى عمليات انتشال الشهداء من أسفل المنازل المدمّرة الصغيرة. رافق العمل باقرٌ كان يفتّت الأسقف والأعمدة، فيما تولّت الجرافة سحب الركام ورفعه ثم إلقاءه مجددًا، لتظهر تباعًا عظام الشهداء ومقتنياتهم كالهواتف، في مشهد تكرر على مدار يومي الاثنين والثلاثاء، تحت زخّات المطر.

انتظار طويل

يقول سالم، وهو ينتظر رفاة أحفاده، لـ "فلسطين أون لاين"، في لحظة امتزجت فيها النظرات بالحسرة والحزن: "عندما ارتكب الاحتلال المجزرة، استطاع الجيران—بعد انسحاب جيش الاحتلال في اليوم التالي—نقل المصابين إلى المستشفى، إذ لم يتمكن أحد من الوصول بسبب انتشار القنّاصة. وعندما وصلنا، دفنّا الشهداء الذين استطعنا إخراجهم في الجهة الشرقية من أرضٍ تابعة للمنزل، وبقي 47 شهيدًا عالقين تحت الأنقاض".

وعانت العائلة كثيرًا لانتشال أفرادها، وظلّت تتجرّع مرارة انتظارٍ ثقيل، مناشدةً المؤسسات الدولية، إلا أن منع الاحتلال إدخال المعدات الثقيلة ما يزال يحول دون إغلاق هذا الجرح المفتوح، لعائلات نحو عشرة آلاف مفقود لا يزالون تحت الأنقاض.

وعلى ناحية أخرى من المكان، يقف هاني سالم، الذي كان في قلب المجزرة وفقد كامل أسرته، بالقرب من موقع إلقاء الجرافة للعظام بعد رفع الأنقاض، في رحلة البحث عن المفقودين، وما يزال يكتوي بنار الفقد.

تعود ذاكرته، في حديثه مع "فلسطين أون لاين"، إلى يوم المجزرة قائلًا: "عندما انسحب جيش الاحتلال بعد هدم السور بدا الأمر جيدًا، لكن عند الساعة الحادية عشرة مساءً كنت نائمًا، واستيقظت مذعورًا على أصوات الانفجارات ووميض الصواريخ. فتحت عينيّ ولم أرَ سوى السواد، وكنت عالقًا تحت الركام. ناديت زوجتي وأبنائي فلم يجب أحد".

وبينما واصلت الطواقم تفقد الركام، تتزاحم المشاهد في ذاكرته: "رأيت نيرانًا تشتعل بقربي، وبقيت عالقًا تحت الأنقاض 16 ساعة، حتى استطاع الجيران والعائلة الوصول إليّ، لأُصدم باستشهاد زوجتي وأبنائي الستة".

وقبل المجزرة بلحظات، تناول العشاء الأخير مع أفراد العائلة الذين التفّوا حول مائدة واحدة قبل أن يتفرقوا للنوم. يقول متماسكًا، وفي عينيه بريق حزنٍ لرجلٍ كسره الفقد: "كانت أجواء محبة بين أبناء العم والعمومة وأبناء الخال".

لم ينتظر الرجل قدوم الآليات الثقيلة، فوجود عائلته في الطابق الثاني مكّنه من الوصول إليهم بالحفر بأدوات يدوية، بعد عملٍ مضنٍ استمر أيامًا منذ لحظة وقوع المجزرة. تمكّن خلالها من انتشال والده إبراهيم سالم (73 عامًا)، وزوجته لبنى سالم (43 عامًا)، وأبنائه محمد (22 عامًا)، وجنى (18 عامًا)، وسمر (16 عامًا)، وإبراهيم (14 عامًا)، وعمر (12 عامًا)، وكانت جثامينهم أشلاء ممزقة. وبقيت والدته فريال سالم (65 عامًا) تحت الركام، فيما ظل نجله جهاد (20 عامًا) مفقودًا.

النظرة الأخيرة

منذ بدء الحفر وإزالة الأنقاض، وصلت الحاجة نائلة سالم إلى المكان، وبالرغم من المنخفض الجوي والمطر، أمضت يوم أول من أمس، كاملًا بانتظار الوصول إلى جثمان ابنتها وأحفادها، ثم عادت يوم أمس، لتنتظر نظرة الوداع الأخيرة.

تجلس سالم مع نساء العائلة، وبقربها عدة أكفان لنساءٍ جرى انتشالهنّ يوم الثلاثاء. تسند رأسها إلى يدها وتراقب عمل الطواقم من بعيد، منتظرة رفاة ابنتها نداء (32 عامًا)، وحفيداتها ماريا (10 سنوات)، ومنى (9 سنوات)، وشام (6 سنوات)، وشمس (سنتان).

يملأ الحزن قلب سالم ونظراتها. تقول لـ"فلسطين أون لاين": "لم أودّع ابنتي. النار تكوي قلبي منذ لحظة استشهادها. ولي ابنة أخرى استُشهدت، وولدٌ آخر استُشهد خلال الحرب. كأني اليوم أنتظر فتح بيت عزاء. مرّت عليّ ليالٍ طويلة أبكي لأنهم لم يُدفنوا. لا تزال آخر كلمات ابنتي ترنّ في أذني عندما التقيتها في العيادة مع إعلان الهدنة، قالت: (محلّا وجهك يما علينا)".

وبرغم إدراكها أن ما تبقّى من جثمان ابنتها نداء ليس سوى بقايا عظام ورفات وملابس، وأن الملامح قد تغيّرت، لم يتغير إصرار الأم على نظرة الوداع، ولو على قطعة عظم واحدة. تقول: "لن يرتاح بالي إلا بدفنها".

وكحال غيرها، كان الحاج عادل سالم ينتظر إخراج جثامين 22 فردًا من زوجتيه وأبنائه الستة وأحفاده. وقد تمكّنت الطواقم من انتشال أحد أبنائه وتعرّف إليه من ملابسه. كانت مهمة قاسية أن يشاهد جميع الرفات ويتجرّع قسوة المشاهد، فهذه ليست الصورة الأخيرة التي ترك فيها جثامينهم.

ومن قلبٍ تجرّع مرارة فقد معظم عائلته، يقول لـ"فلسطين أون لاين": "أمرٌ قاسٍ ومؤلم أن تنتظر عامين حتى تأتي اللحظة التي طال انتظارها، بينما جلب العالم كل المعدات لإخراج جثث أسرى الاحتلال. استُشهد ابني محمد وزوجته وأبناؤه الثلاثة، ومُسحت عائلته من السجل المدني. واستُشهد ابني حسين مع زوجته وولدٍ وبنت، ونجت له بنتان. كما استُشهد أبنائي: حمزة، وعلي، وعاصم، وعمر".

تجسّد قصة عائلة سالم واحدةً من مآسي عائلات الشهداء المفقودين؛ فمع إزالة الأنقاض تُفتح الحكاية من جديد، في اللحظة التي تُغلق فيها العائلة جرحها، لتُروى تفاصيل المجزرة مرة أخرى على أنقاض الركام وبقايا العظام والهياكل التي لم تُدفن لعامين، في أكبر انتهاك لكرامة الميت والشهيد بالدفن، فيما ظلّ العالم صامتًا كما صمت على الإبادة وشلال الدم النازف.

اخبار ذات صلة