على حافة رصيف الميناء، غرب مدينة غزة، حيث تتناثر خيام النازحين، وتحيط بها مياه البحر وقوارب الصيد المدمرة، يواجه الزوجان شهاب وشرين السويركي وأطفالهما الأربعة، مصيرًا مجهولاً تحت سقف لا يشبه البيوت ولا حتى الخيام.. شادر بلاستيكي متهالك، ثُبت في الأرض على هيئة هرم، تحاول الرياح اقتلاعه مع كل هبّة هواء، فيما تقتحمه أمواج البحر حتى غَدَت في نظر القابعين تحته، كالأنيابِ المُفترسة.
كان للزوجين بيتٌ في حي الشجاعية، شرقي مدينة غزة، دمره جيش الاحتلال الإسرائيلي بالكامل في خِضَّم حرب الإبادةِ، فوجدت الأسرة نفسها بلا مأوى. وبعد رحلة نزوح قسري بين أحياء المدينة، لم يجد شهاب (38 عامًا) سوى الميناء، حيث يلتقي رصيفها بالبحر، ولا يفصل بين أطفاله والمياه الباردة سوى خطوات قليلة.
تحت هذا الشادر المحاط بقطع من القماش الرطب، تحاول الزوجة شرين (30 عامًا) ترتيب حياة لا تشبه نفسها؛ فرشات إسفنجية أغرقتها المياه، وأغطية خفيفة لا تقوى على صد لسعات البرد، وملابس معلّقة على حبال مشدودة بين أعمدة معدنية صدئة، تنقط منها الأمطار ومياه البحر المالحة.
"ننشر الملابس كي لا تتعفن، لكننا نرتديها وهي مبللة، لا خيار آخر بعدما داهمتنا مياه الأمطار والبحر." قالت شرين وهي تحاول نشر غسيل لم يجف منذ أيام، حيث تأثر القطاع الساحلي، مؤخرًا، بمنخفض جوي عميق، رافقته أمطار غزيرة ورياح شديدة زادت من علو أمواج البحر.
تعترف شرين البالغة (30 عامًا)، أنها تحب البحر كثيرًا، واعتادت على زيارته مع زوجها. "لكن بعد الحرب والنزوح صار البحر يلاحقنا حتى صرت أراه كوحش بأنياب مفترسة." أضافت وبدت هادئة في حديثها رغم ظروفها القاسية ومرارة العيش.
تابعت بصوت خافت: "كان لدينا خيمة لكن الرياح الشديدة مزقتها، نحن نعيش فيما يشبه العراء ولسعات البرد تقتلنا جميعًا."
وقبل الحرب التي بدأها جيش الاحتلال الإسرائيلي يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، عاشت العائلة حياة سعيدة مستقرة لأعوام طويلة في منزلها، رغم ضيق الحال وقلة الدخل المادي الذي جلبه زوجها طيلة فترة عمله في مصنع خياطة محلي.
إلا أن الحرب التي استمرت سنتين، قلبت حياتهم رأسًا على عقب، فمنزل العائلة المكون من 4 طوابق، وشيد فيه الزوجين جزءًا من شقتهم السكنية، دمرته آلة الحرب الإسرائيلية بالكامل، وجعلته ركامًا متناثرًا.
واصلت شرين حديثها بنبرة تحمل الكثير من الألم، "منذ أن فقدنا منزلنا نشعر أننا فقدنا كل شيء.. الآن لا منزل، لا خيمة، لا حياة نعيشها، نشعر أننا مطاردين بالخوف والبرد وأنياب البحر."
أما الشادر الذي لا يحمي أفراد الأسرة، محاط بالبحر من أكثر من جهة، ما يزيد من قلق الأم التي لا تترك أطفالها وحدهم لحظة خشية أن ينزلق أحدهم في الظلام، أو أثناء اللعب قرب المياه، فيسقط في البحر.
قالت وهي تضم أصغر أطفالها إلى صدرها: "أنام وأنا أضع يدي عليهم.. أخاف أن أستيقظ وأفقد أحدهم."
بين الملابس البالية المعلقة على طرف الخيمة، تحسس شهاب بعضًا منها ليلمس أقلها رطوبة قبل ارتدائها. "هذا هو حالنا.. حتى الملابس أخذها البحر منها ونزلت إلى المياه الباردة لأحضرها، لأننا لو فقدناها لن نجد غيرها." قال بصوت غاضب.
وبينما يقضي شهاب وقته طيلة النهار في توفير بعض احتياجات أسرته وخاصة المياه الصالحة للشرب، يحرص ليلاً على النوم قرب أوتاد الخيمة وأعمدتها، محاولاً تثبيتها كلما حاولت الرياح اقتلاعها.
وأضاف، "طيلة أيام المنخفض لم أرَ النوم.. صرت أشعر بآلام شديدة في جسدي بسبب برودة الطقس، فهذا المكان لا تحتمل الحيوانات العيش فيه."
يدرك هذا الرجل أن مأساته وزوجته كبيرة جدًا في مكان يفتقد لأدنى مقومات الحياة، يضاعفها جروح أبنائه الذين يحملون آثار الحرب على أجسادهم.
فالأشقاء الأربعة، الذين لم يتجاوز أكبرهم الحادية عشرة من عمره، أصيبوا جميعًا في قصف إسرائيلي نفذته طائرة حربية بدون طيار، استهدف مجموعة مواطنين في منطقة الزرقة القريبة من حي التفاح، شرقي مدينة غزة إبَّان الحرب.
فراس هو الأكبر وعمره (11 عامًا)، كان قد أصيب بكسور في ساقه اليسرى ويده اليمنى ويعاني من آثارهما عند اشتداد وطأة البرد، أما سراج (10 أعوام) قطعت الشظايا شرايين ساقه اليسرى فاستأصل الأطباء أجزاءً من شرايين الساق اليمنى، وزرعوها في ساقه الجريحة، فيما اخترقت شظية رأسه وأدت إلى خرق طبلة الأذن اليمنى.
أما شقيقهما أحمد (7 أعوام) أصابت شظية دماغه، وسببت له نزيفًا داخليًا واستقرت في دماغه، في حين أن شقيقهم الأصغر عيسى (4 أعوام)، اخترقت الشظايا الملتهبة جسده الغضّ واستقرت داخله. وإن كان الأطباء أقروا للأخوة الأربعة مغادرة المستشفى، فهم يخضعون للعلاج والمراجعة الطبية المستمرة.
ومع كل عاصفة، يتسلل ماء البحر إلى الشادر ليختلط بمياه الأمطار، ويحول الأرضية إلى طين بارد، تزداد أوجاع الأشقاء الجرحى. وبينما تصارع الأم من أجل إشعال عيدان الأخشاب الرطبة لصنع مشروب دافئ لأطفالها، يعمل زوجها على رفع الأغراض على حجارة أو قطع خشب صغيرة.
تختصر حكاية هذه الأسرة حال آلاف العائلات التي دفعتها الحرب إلى النزوح القسري، لكنها تختلف في موقع نزوحها؛ فلا جدران تحميها، ولا خيمة حقيقية تصد الرياح، فقط شادر وبحر غاضب، وخوف دائم من القادم.
وبين موجة وأخرى تنقضُّ على اللسان البحر وتقتحم الخيام، يحاول الزوجان وأطفالهما التمسك بما تبقى من حياة في انتظار دفءٍ مؤجل، أو سقف لا تهدده العاصفة.
قال شهاب وهو ينظر إلى البحر القريب: "أخاف من الليل أكثر من النهار.. الرياح تشتد والموج يرتفع، والأطفال يرتجفون عند النوم من شدة البرد. بمجرد أن نسمع في الأخبار عن منخفض جوي قادم يدخل الرعب قلوبنا. نفكر: هل سيصمد هذا الشادر.. وهل سننجو؟"