في ليالي غزة، لا تُقاس المآسي بعدد الصواريخ، بل بعدد القلوب التي توقفت دفعة واحدة. هناك عائلات لا تجد وقتاً للبكاء، لأن الفقد يأتي كاملاً، صاعقاً، بلا مقدمات. عائلات تُمحى أسماؤها من دفاتر الحياة في لحظة، ويُترك شاهد واحد فقط ليروي كيف كان البيت عامراً قبل أن يتحول إلى حفرة من الركام.
عائلة حمزة خلة واحدة من تلك الحكايات الثقيلة، التي لا تبدأ عند لحظة القصف، بل عند رحلة نزوح طويلة بحثاً عن الأمان، وتنتهي عند سجودٍ أخير تحت سماء امتلأت بالنار. قصة لا تختصر وجع غزة فحسب، بل تكشف كيف تحوّل الاستهداف من قتل أفراد إلى محو عائلات كاملة، وكأن الوجود الفلسطيني ذاته صار هدفاً مشروعاً للقصف.
لم تكن عائلة حمزة خلة تعرف أن صلاتها الأخيرة في ليلة الخامس من رمضان 2024، ستُكتب تحت الركام، وأن أسماءها ستتحول من سجلات الحياة إلى أرقام في قوائم الشهداء. حمزة (37 عاماً)، زوجته آلاء كرم خلة (33 عاماً)، وأطفاله الثلاثة: فادي (14 عاماً)، رضوان (11 عاماً)، وكرم (8 أعوام)، رحلوا دفعة واحدة، ومعهم والدتهم فاتن محمد خلة (63 عاماً)، وطفلان آخران، في واحدة من أكثر الجرائم قسوة التي شهدها شمال قطاع غزة.
يروي القصة شقيق الشهيد، أحمد خلة (36 عاماً)، بصوتٍ يثقلُه الفقد. لم يكتفِ الاحتلال بمحو عائلة شقيقه، حيث طالت المجزرة اثنين من أبنائه وهم: حسن (11 عاماً) وبراء (9 أعوام). "لم يترك لنا الاحتلال مساحة للحزن التدريجي، كل شيء حدث دفعة واحدة"، يقول أحمد.
وكانت تقطن العائلة في منطقة السودانية شمال غرب قطاع غزة، حيث كان لهم منزل مكون من أربعة طوابق. مع بداية السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وبحكم كونها منطقة حدودية، اشتد القصف، واضطر حمزة وعائلته للنزوح المتكرر بحثاً عن ملاذ آمن. من السودانية إلى الشيخ رضوان، ثم إلى جباليا، فحي الدرج، قبل أن يستقروا أخيراً في شقة شقيقتهم ببرج "الماسة" في حي النصر غربي مدينة غزة.
في يوم الجمعة 15 آذار/مارس 2024، الموافق الخامس من رمضان، وبينما كانت غزة تعيش أول أيام رمضان في ظل حرب الإبادة الجماعية التي لم ترحم أحداً، كانت العائلة تؤدي صلاة قيام الليل – التراويح-.
يحكي أحمد لمراسل "فلسطين أون لاين" والألم يعتصر قلبه، "عند الساعة الثامنة والربع مساءً، استهدف الاحتلال برج الماسة المكوّن من ثمانية طوابق بصاروخين من طائرات F-35، يزن كل منهما طناً. فصل بين الصاروخ الأول والثاني 4 ثوانٍ فقط، فتحوّل البرج إلى كومة هائلة من الركام، واختلطت الطوابق ببعضها.
كان أحمد قد غادر الشقة قبل نصف ساعة، بعد اتصالٍ طارئ للتوجه إلى مجمع الشفاء الطبي. "وأنا في المستشفى، شعرت بزلزال هزّ المكان. علمت فوراً أن البرج قُصف"، يقول. حين عاد، لم يجد سوى الركام. لم يكن ممكناً أن ينجو أحد.
يقول أحمد "في اليوم التالي، تواصلت مع الدفاع المدني والإسعاف من أجل الوصول إلى الضحايا، لكن نقص الإمكانيات والآليات حال دون انتشال الجثامين. ثم زاد المشهد قسوة مع اقتحام قوات الاحتلال لمجمع الشفاء ومحيط منطقة النصر، ما أعاق عمليات البحث".
ويضيف "بعد انسحاب قوات الاحتلال من تلك المنطقة، وبعد 14 يوماً، بدأ الأهالي، بجهود شبابية فردية وبأدوات يدوية، رحلة شاقة استمرت 19 يوماً لانتشال الشهداء".
لم تُستخرج الجثامين دفعة واحدة. في اليوم السابع عشر، عُثر على جثمان زوجة حمزة، وقد أصيبت بضربة قاتلة في الرأس. في اليوم السادس والعشرين، استُخرج حمزة وابنه رضوان، وكانا ساجدين في الصلاة؛ رأس حمزة مهشم بعد أن سقط عليه عمود باطون. بعد يومين، عُثر على فادي، مقطوع الرأس والكتف. وفي اليوم الثاني والثلاثين، انتُشل جثمان والدتهم وواحد من أطفال أحمد، والطفل كرم، الذي لم يتبقَ منه سوى أشلاء، وفق ما يروي احمد.
ويروي بصوت مُثقل بالوجع "بهذا الشكل، مُسحت عائلة أخي بالكامل من السجل المدني. الاحتلال لا يستهدف مقاتلين، بل مدنيين. أخي كان من المسجد إلى البيت والعمل، لكنه بقي صامداً في الشمال، يساعد الناس، فكان العقاب محو عائلته".
آخر ما جمع أحمد بعائلة شقيقه كان إفطار رمضان. "آخر أكلة أكلناها معاً كانت المفتول. بعدها بدقائق غادرت، ولم أعد لأجدهم". يختصر أحمد فاجعة العائلة برسالة أخيرة: ضرورة انتشال جثامين الشهداء الذين ما زالوا تحت ركام البرج ودفنهم بكرامة، ونداء إلى الأمة العربية والإسلامية: "ما يجري ليس حرباً، بل محاولة لإبادة الفلسطينيين. إن سقطت غزة، فلن تبقى كرامة لأحد".
هكذا، تحت الركام، انتهت حكاية عائلة، وبقي شاهدها الوحيد يروي، كي لا تُمحى الذاكرة كما مُحيت الأسماء.