بعد 38 عامًا على تأسيس حركة المقاومة الإسلامية حماس، يرى مدير مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات د. محسن صالح أن الحركة تقف اليوم في موقع متقدم بوصفها أقوى قوة مقاومة مسلحة فلسطينية، والحركة الأكثر حضورًا وتأثيرًا في المشهد الفلسطيني، على الرغم مما كابدته من خسائر بشرية غير مسبوقة خلال معركة "طوفان الأقصى" وما تلاها من حرب إبادة.
ويؤكد صالح في حوار مع "فلسطين أون لاين"، أن حماس أصبحت، وفق استطلاعات الرأي، الحركة الأكثر شعبية ومصداقية في الوسط الفلسطيني، بعد أن قدمت معظم قادتها السياسيين والعسكريين وآلافًا من كوادرها شهداء، ما جعلها محل احترام واسع فلسطينيًا وعربيًا وإسلاميًا ودوليًا، ومصدر إلهام لشعوب المنطقة وللإنسانية جمعاء بنماذج الصمود والبطولة التي قدمتها.
ويشير إلى أن أحد أبرز مكاسب الحركة تمثل في نجاحها في توجيه أقسى ضربة يتعرض لها الكيان الصهيوني منذ تأسيسه عبر عملية "طوفان الأقصى"، التي أعادت القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمام العالمي، وأثبتت عمليًا إمكانية هزيمة المشروع الصهيوني، بعد أن كانت القضية تسير – قبل العملية – في مسار الشطب والإلغاء.
وبحسب صالح، فإن حماس سجلت إنجازًا إضافيًا بصمودها "الملحمي" في حرب استمرت قرابة عامين، فشلت خلالها "إسرائيل"، المدعومة بالولايات المتحدة القوة الأولى في العالم، في تحقيق أهدافها، أو في هزيمة الحركة، أو حتى في انتزاع أسير واحد بالقوة، ما أدى إلى حالة عجز داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية.
وفي المقابل، لا ينكر صالح حجم الخسائر، إذ فقدت الحركة معظم قادتها، وتعرضت لاستهداف سياسي ومالي من دول التطبيع العربي والإسلامي، وواجهت بيئة دولية خاضعة للنفوذ الأميركي، واتهامات بما يسمى "الإرهاب"، فضلًا عن وجود آلاف من أسراها. ومع ذلك، يؤكد أن حماس مع كل هذه المعاناة ظلت منسجمة مع مبادئها وعقيدتها، ونجحت في فرض احترامها على الجميع رغم كل أشكال الحصار والضغط.
فشل إسرائيلي
وحول مدى نجاح "إسرائيل" في تحقيق هدفها المعلن بالقضاء على حماس، يشدد صالح على أن هذا الهدف فشل فشلًا ذريعًا، رغم اغتيال عدد كبير من قيادات الحركة السياسية والعسكرية، بينهم رئيس الحركة إسماعيل هنية ونائبه صالح العاروري ونائب رئيس المكتب السياسي يحيى السنوار، إضافة إلى آلاف من كوادرها.
ويؤكد أن هذه الاغتيالات لم تؤد إلى القضاء على الحركة، وأن الحديث المتكرر لرئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو عن "سحق حماس" كهدف مركزي للحرب ثبت فشله، مشيرًا إلى أن تقارير إسرائيلية نفسها تفيد بأن حماس استطاعت تعويض معظم شهدائها في كتائب القسام، وهو ما كان أحد الأسباب الرئيسة لتوصية رئيس أركان جيش الاحتلال إيال زمير بوقف الحرب والتوجه نحو تسوية سياسية، في ظل غياب أي أفق لهزيمة الحركة عسكريًا.
ويضيف أن حماس ما تزال حتى اللحظة القوة الأولى في قطاع غزة، والأكثر شعبية في الضفة الغربية، وكذلك في أوساط الفلسطينيين في الخارج، معتبرًا أن الحركة "ولادة"، إذ سبق أن خسرت عددًا كبيرًا من قادتها وشهدائها خلال الانتفاضة الأولى، وبعد اتفاق "أوسلو" باغتيال قادة بارزين مثل يحيى عياش ورفاقه، ثم خلال انتفاضة الأقصى باغتيال الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وجمال سليم وإسماعيل أبو شنب، لكنها في كل مرة نجحت في تعويضهم بقيادات جديدة صلبة وقوية وقادرة على الاستمرار والإبداع.
الخيار الأكثر جدوى
وفيما يتعلق بجدوى استمرار خيار المقاومة المسلحة بعد الدمار الواسع، يؤكد صالح أن المقاومة هي الخيار الوحيد والأكثر جدوى في مواجهة المشروع الصهيوني، رغم كلفتها الباهظة جدًا، معتبرًا أنه "مسار إجباري" لا يملك الشعب الفلسطيني بدائل حقيقية عنه.
ويوضح أن قضية فلسطين، قبل "طوفان الأقصى"، كانت تسير نحو الشطب والإلغاء، في ظل ما عُرف بـ"خطة الحسم" التي قادها تحالف اليمين القومي الليكودي مع "الصهيونية الدينية" بزعامة بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، والهادفة إلى ضم الضفة الغربية، وشطب الملف الفلسطيني، وضرب المقاومة في قطاع غزة.
وبحسب صالح، فإن "طوفان الأقصى" أوقف هذا المسار بالكامل، وهز الكيان الصهيوني سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا وبشريًا، وعزله عالميًا، وحوله إلى كيان منبوذ، وأوقف مسارات التطبيع، وأقام "جدرانًا من الدم" بين الكيان الإسرائيلي وشعوب المنطقة".
ويؤكد صالح أن الشعب الفلسطيني ما زال يلتف حول خيار المقاومة، إدراكًا منه لكونه الخيار الأكثر جدوى، رغم فداحة الأثمان، محذرًا من أن ترك الساحة دون مقاومة، أو الاستمرار في النهج الذي تقوده سلطة رام الله ومنظمة التحرير، كان سيؤدي إلى شطب القضية الفلسطينية وعزلها بالكامل في ظل بيئة التطبيع العربي.
اليوم التالي
وحول السيناريو المتوقع لليوم التالي في غزة، في ظل الدعوات إلى نزع سلاح المقاومة، يصف صالح المشهد بأنه صراع إرادات مفتوح، بين إرادة أمريكية مدعومة بقرار دولي وبيئة عربية خاذلة للمقاومة تسعى إلى فرض مجلس وصاية أو حكومة تكنوقراط ونزع سلاح غزة، وبين واقع إسرائيلي يمارس الابتزاز عبر احتلال لنصف القطاع والسيطرة على المعابر والاغتيالات.
وفي المقابل، يشدد صالح على أن المقاومة ما تزال تمتلك عناصر قوة أساسية، في مقدمتها كونها القوة الشعبية الأولى التي يلتف حولها الناس، مؤكدًا أن الأطراف العربية والإسلامية والدولية التي تطرح نزع السلاح لا تريد أن تكون طرفًا مباشرًا في تنفيذه، ولا ترغب في القيام بذلك نيابة عن "إسرائيل" التي فشلت طوال عامين في تحقيقه.
ويرى أن رفض المقاومة والشعب الفلسطيني لنزع السلاح بالقوة يجعل فرض هذا الخيار أمرًا مستحيلًا، وينسحب الأمر نفسه على مشاريع مجلس الوصاية أو حكومة التكنوقراط، إذ يؤكد أن وحدة الشعب الفلسطيني خلف حقه في تقرير مصيره وصناعة قراره ورفض التعامل مع هذه الحكومة، كفيل بإفشال هذه الترتيبات، خاصة في ظل مئات القرارات الدولية التي تكفل هذا الحق وتدعم إقامة الدولة الفلسطينية على الأقل في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ويتوقع صالح أن يتعرض القطاع لمزيد من الضغوط الأمريكية والإسرائيلية لمحاولة تطويعه، لكنه يشير إلى وجود نقاشات حقيقية داخل الإدارة الأمريكية لإعادة النظر في فكرة نزع السلاح بالقوة، وإعادة تعريف دور القوة الدولية ومجلس الوصاية، معتبرًا أن إصرار الشعب الفلسطيني قد يفرض إعادة صياغة هذه السيناريوهات.
أولويات حماس
وفيما يتعلق بتأثير الحرب في القاعدة الشعبية لحماس، يؤكد صالح أن استطلاعات الرأي الصادرة عن مركز البحوث السياسية والمسحية في رام الله، وهو مركز مستقل، أظهرت خلال العامين الماضيين أن حماس هي الحركة الأولى شعبيًا في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ويرى أن هذه النتائج تمنح الحركة فرصة لمواصلة مسيرتها المقاومة، مع إجراء مراجعة للتجربة وتطويرها والاستفادة منها، واضعًا في مقدمة الأولويات إعادة إعمار قطاع غزة، وتثبيت الشعب الفلسطيني على أرضه، وإفشال مشاريع التهجير، وإجبار الاحتلال على الانسحاب الكامل من القطاع.
ويختم صالح بالتأكيد على ضرورة أن تضع حماس في أولوياتها بالمرحلة إعادة ترتيب بناء البيت الفلسطيني على أسس من الثوابت وعلى اعتبارات المصالح العليا للشعب الفلسطيني، وإعادة ترتيب نفسها وبيئتها الداخلية وأخذ ما يشبه "استراحة المحارب"، ولو جزئيًا، تمهيدًا لانطلاقة جديدة تكون أكثر تأثيرًا وقدرة على الضغط على الاحتلال، وأكثر التصاقًا بمشروع العودة والتحرير.