على مقربة من شاطئ بحر غزة، كانت روضة صالح تأمل في أن تقيها خيمة النزوح القسري برد الشتاء أو المطر، لكن أمنيتها تبخرت مع قدوم منخفض "بيرون" الذي أغرقها مع أطفالها الأربعة.
بلا جدوى، تحاول السيدة، التي يطبق على صدرها العجز وقلة الحيلة، تجفيف أرضية الخيمة المهترئة، أو تنشيف فراشها، ويختنق صوتها بهمومها، دون أن تدري كيف ستواجه منخفضا آخر تلمح له الأرصاد الجوية!
وإلى جانبها، سقطت خيام نازحين آخرين أرضا، في حين تهاوت الحجارة وبعض الأعمدة من مبنى مجاور على من احتموا فيه من المطر. ولم يعد واقع الخيام قابلا للاستمرار، كما يقول النازحون، الذين يطلقون صرخات إنسانية للضغط على الاحتلال لإدخال "كرفانات" لحين إعادة الإعمار.
لدى روضة، وهي أرملة شهيد، ابنتان توأمتان تبلغان 14 عاما، وابنان أكبرهما 15 عاما والأصغر 13 عاما، يواجهون معها المأساة. تشير بيدها إلى ثقب في الخيمة، قائلة لصحيفة "فلسطين": "أولادي أيتام، وخيمتي خيطتها خياطة، وكل فراشنا مية".

فقدت روضة بيتها الذي دمره الاحتلال في خضم حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، لكنها أيضا لا تملك اليوم مأوى أو حتى فراش وأغطية. تضيف: "اجى المنخفض بهدلني.. خيمتي وقعت، والمية غرقت الأولاد".
وفي إثر المنخفض الجوي، عانت الأم من المرض، بينما تعجز عن توفير مستلزمات أساسية لابنتيها على وجه الخصوص.

وعلى مقربة من المجلس التشريعي المدمر في مدينة غزة، حكاية معاناة أخرى لعلا حمادين، التي كانت تراقب ابنها صلاح (16 عاما)، وهو يحاول صنع هيكل خشبي أمام خيمتها الغارقة، على أمل أن يساعدها ذلك في مواجهة المنخفض القادم.
المفارقة كما تقول علا لصحيفة "فلسطين"، أنه رغم سريان اتفاق وقف حرب الإبادة، فإن الحرب لم تنته، وتتخذ أشكالا مختلفة، يسببها الاحتلال.
وخلال حرب الإبادة، نزحت علا قسرا مرات عديدة، لكن مسلسل النزوح القسري لا يزال مستمرا. "أنا نازحة من بيت حانون. كان الاحتلال يجبرنا على واقع التشريد بالنار، والآن نهرب من المطر أيضا".
في المنخفض الأخير الذي بدأ الأربعاء وانحسر أمس، عاشت علا تفاصيل الغرق. تقول: "ولا قطعة في الخيمة إلا صارت مية. عندي تسع أولاد، أصغرهم عمره خمس شهور، كلهم مرضوا".
أصيبت السيدة وأبناؤها بأعراض مثل السخونة، والسعال، مع انعدام مقومات مواجهة المطر، أو حتى البطانيات والفراش. تتساءل: "مفش اشي يؤوينا. هل النايلون والقماش بدو يحمينا؟".
وهذه ليست المرة الأولى التي تتسبب فيها تداعيات حرب الإبادة بالمرض لأبنائها، فقد سبق وأن أصيب طفلها الرضيع بالحمى الشوكية، ومكثت في المستشفى معه 28 يوما، كما أن زوجها مصاب بنيران الاحتلال.
بنبرة يشوبها الحذر والخوف، تقول: احنا بنعاني من المطر. بنغرق كل يوم والتاني. بندعي من ربنا متمطرش عشان منغرقش. عنا اولاد بيعوموا والبنات مش لا عارفين نغطيهم. احنا عايشين بنايلون وشوادر. هذا مش حل".
وتظهر بيانات رسمية في غزة، تضرر وغرق أكثر من 53,000 خيمة جزئيا أو كليا، وتلف الشوادر والأغطية البلاستيكية ومواد العزل، وفقدان الفرشات، والبطانيات، وأدوات النوم، وتلف أدوات الطهي والمواد الأساسية داخل الخيام، وانهيار أماكن إيواء طارئة في عدة تجمعات.
ويُعد قطاع الخيام الأكثر تضررا من المنخفض القطبي "بيرون" بسبب تحوّل مراكز النزوح إلى برك من المياه والطين، بحسب بيان للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة أمس.
وسبب المنخفض، كما جاء في البيان، ضررا مباشرا لأكثر من ربع مليون نازح، من أصل نحو مليون ونصف المليون نازح يعيشون في خيام ومراكز إيواء بدائية لا توفر الحد الأدنى من الحماية.
"كرفان يؤوينا..."
ويبدو أن نازحي غزة قد سئموا عجز المجتمع الدولي عن إنقاذهم، أو الضغط على الاحتلال للالتزام بالبروتوكول الإنساني لاتفاق وقف حرب الإبادة الذي أبرم بوساطة مصرية قطرية تركية ورعاية أمريكية، لكنهم لا يملكون سوى الاستمرار في المطالبة بحقوقهم.
روضة بدورها، تناشد العالم إدخال الكرفانات لغزة لحين إعادة الإعمار، قائلة: "احنا عايشين في الشارع. بننام بأواعينا".
وتضيف النازحة المكلومة: "حرب الإبادة دمرتنا. بدنا دول العالم تنظر النا، وتساعدنا، وتجبلنا كرفانات"، مشيرة إلى أن الخيام غير صالحة للعيش الآدمي، خصوصا في فصل الشتاء.
تضم علا صوتها إلى روضة، قائلة: "راحوا دورنا وراحوا ولادنا وراح كل اشي... على الأقل يعطونا مأوى نعيش فيه. أقل اشي كرفان يؤوينا... غرفة مستورة من غير مطر ومن غير سقعة".
وتطالب السيدة وسطاء اتفاق وقف الحرب، بالضغط على الاحتلال لإدخال الكرفانات لإيواء النازحين.
تلك صرخات يطلقها النازحون في غزة من قلب الخيام الساقطة في اختبارات العيش، على أمل ألا يغرقوا في المنخفض التالي، فهل يستجيب العالم؟

