فلسطين أون لاين

آخر ضحكاتها توقّفت تحت المطر

تقرير رهف.. ضحية البرد والنزوح في مواصي خان يونس

...
الرضيعة رهف أبو جزر (8 أشهر)، قضت شهيدة بسبب البرد
غزة/ يحيى اليعقوبي:

بعينين غائرتين تحمل طفلتها الرضيعة بين ذراعيها، تصمت الطفلة بلا حركة أو نبض، وتنهمر الدموع من عيني الأم وهي تضعها في الكفن لا في فراش النوم. تحاول إطالة عناقها الأخير، تشمّ رائحتها، وتستعيد صدى ضحكاتٍ أوقفتها موجة بردٍ قارس، قبل أن تُوارى الطفلة في الثرى.

فجر الخميس الماضي، أفاقت هيجر أبو جزر لتفقّد أطفالها وتغطيتهم، بعدما شعرت بموجة هواء باردة تقتحم الخيمة من كل الاتجاهات. غطّت أطفالها، ثم وصلت إلى مكان نوم الرضيعة رهف (8 أشهر)، لتجدها غارقة بالمياه التي بلّلت ملابسها وفرشتها، وقد أصبح جسدها باردًا ومتجمّدًا ومزرقًّا.

على الفور، استبدلت الأم ملابس طفلتها، وحاولت منحها الدفء بضمّها إلى صدرها ووضعها داخل أغطية لم تصلها المياه، وأطلقت صرخات أمّ تفقد رضيعها. استدعى ذلك حضور إخوتها الذين هرعوا إلى المكان، ونقلوا بقية الأطفال إلى خيام أكثر أمانًا، وانتظروا وصول الإسعاف، لتنقل الرضيعة إلى المستشفى وهي تلتقط أنفاسها الأخيرة، دون أن يتمكّن الأطباء من إنقاذها.

تقع الخيمة أسفل تلة ترابية طينية في مركز إيواء "القادسية" بمواصي خان يونس. وبفعل المنخفض الجوي، انجرفت المياه نحو الخيمة على شكل سيول مختلطة بالطين. وخلال المنخفضين السابقين، كانت العائلة تُنشئ سواتر رملية وتتعاون في إبعاد المياه، إلا أن السيول تدفّقت هذه المرة والجميع نائم، فكانت الطفلة الرضيعة أول الضحايا.

شاهد على المأساة

تجلس الأم داخل فضاء الخيمة تبحث بعينيها عن طفلتها، بعد انحسار المنخفض وهدوء العاصفة. تكتوي بنار الفقد وغياب ضحكات الرضيعة، وتنظر إلى مكان فراش نومها الذي أصبح شاهدًا على المأساة. تستعيد صورتها الأخيرة وهي تلعب وتراقب أمها وتضحك، وتتحرّك يد الأم لاشعوريًا نحو كتف طفلتها؛ حركة اعتادت عليها طوال ثمانية أشهر من الرعاية، ولم تستطع التخلّي عنها.

بعيون باكية، تقول أبو جزر لصحيفة "فلسطين": "في كل مرة كنّا نغرق بمياه المطر، لكن ليس بهذه الصورة. عندما جرت السيول من التلة الترابية المرتفعة، وجدت ملابس طفلتي وجسدها مبلّلين بالمياه. أردت تغطيتها وإرضاعها، لكنني صُدمت بالحالة التي كانت عليها، ولا أزال غير مصدّقة أنها رحلت".

وبعد رحلات نزوح هربًا من إطلاق النار العشوائي من آليات جيش الاحتلال في مناطق عدة على أطراف المواصي، لم تجد العائلة سوى أسفل التلة لإقامة خيمة، شُيّدت بشادر وأُحيطت بالأغطية الشتوية ولفّت بالنايلون. وتعلّق الأم: "زوجي لا يعمل، ولم نستلم خيمة، ولم نستطع شراء خيمة ولا حتى شوادر لزيادة حماية الخيمة. بالكاد نعيش على طعام التكيات".

وقبل أن تنام، تناولت الطفلة مكمّلًا غذائيًا، وأرضعتها أمها عند الساعة الواحدة فجرًا، ثم أغمضت عينيها بأمان. تستحضر الأم صورتها الأخيرة وهي تمسح دموعها قائلة: "كانت تضحك، حملها جدّها مساءً ولاعبها، وكان الجميع يلعب معها. اعتدنا صوتها هنا، وليس سهلًا أن نفقده".

حرمان من الطفولة

فقدت أبو جزر طفلتها رهف، وتخشى أن ينال البرد والمنخفضات الجوية من أشقائها: شام (3 سنوات)، وريتال (5 سنوات)، وآمنة (7 سنوات)، ومحمد (8 سنوات)، وآلاء (10 سنوات)، وعلاء (12 سنة)، خاصة أن معظمهم أُصيبوا بنزلات برد جرّاء المنخفض الأخير.

وُلدت رهف خلال فترة المجاعة، وحُرمت من أبسط حقوقها، كالحليب والحفّاظات التي استخدمها الاحتلال سلاحًا في الحرب. وتستذكر الأم معاناتها في توفير الطعام لطفلتها: "لمدة ثلاثة أشهر لم أستطع توفير حفّاظة واحدة لها، وانقطع عنها الحليب لفترات طويلة. أُصبت بسوء تغذية ولم أستطع إرضاعها كما ينبغي، وأصبح وزنها 5 كغم، ودخلت في حالة سوء تغذية".

ومع وقف إطلاق النار وفتح التكيات أبوابها بعد المجاعة، واستلام المكمّلات الغذائية، تحسّنت حالة الطفلة، وبلغ وزنها في الآونة الأخيرة 8 كغم، وأصبحت – كما تصفها أمها – "مثل الوردة"، وتوفّر لها ما تحتاجه من حليب وحفّاظات.

تقف أبو جزر وسط الخيمة، وتتزاحم أمامها صور طفلتها التي بدأت تسند ظهرها قبل أن تفارق الحياة، وتنادي أمّها بأحد أحرف اسمها الثلاثة.

ورغم دخول أصناف كثيرة من الطعام بفعل وقف إطلاق النار، فإن المجاعة ما تزال تسكن هذه العائلة، التي لم تستطع شراء أي نوع من الفاكهة أو اللحوم منذ أكثر من شهرين، وقبلها نحو ثمانية أشهر، باستثناء كيلو واحد من الموز أحضرته الأم لأطفالها. وتعلّق بقهر: "نضحك على أنفسنا وعلى أطفالنا بإطعامهم طعام التكيات، وما نحصل عليه من الطرود الغذائية".

وقبل الحرب، لم تكن العائلة تعيش وضعًا معيشيًا جيدًا؛ إذ كانت تعتمد على "المنحة القطرية" الشهرية البالغة 100 دولار، وتقطن مخزنًا في حي الجنينة شرق مدينة رفح. ذلك المسكن الذي كان سيئًا بات اليوم "قصرًا" مقارنة بحياة النزوح في المواصي. خرجت العائلة من الحرب برصيد صفري، بعد فقدان المخزن الذي كان بيتًا، وفقدان طفلتها، دون أي مصدر دخل.

وأسفر المنخفض الجوي عن وفاة ثلاثة أطفال بسبب البرد؛ إذ توفي طفلان يوم الجمعة، هما الطفلة هديل حمدان (9 سنوات) التي فارقت الحياة نتيجة البرد القارس ووصلت مستشفى الشفاء جثة هامدة، وكانت تقطن في مدرسة إيواء، إضافة إلى وفاة الرضيع تيم الخواجا، الذي كان يقيم مع عائلته في بقايا منزلهم المتضرر بمخيم الشاطئ.

المصدر / فلسطين أون لاين