لم تكن ساعات المنخفض الجوي الذي ضرب قطاع غزة، منذ بدايته، سوى فصلٍ جديد من فصول المأساة الإنسانية التي يعيشها أكثر من مليون نازح، وجدوا أنفسهم مرة أخرى في مواجهة عاصفة المطر والبرد بلا مأوى آمن، بعد أن دمّر الاحتلال الإسرائيلي بيوتهم، ومنع منذ شهور إدخال الكرفانات والخيام ومواد البناء الضرورية لإعادة إعمار ما تهدّم.
في أحد مراكز الإيواء غرب مدينة غزة، وقف شادي جودة وشقيقاه محمود ومحمد، يحاولون جاهدين تثبيت خيمتهم المهترئة بقطع من النايلون وبعض الحبال، علّها تمنع المياه من التسرّب، لكن أولى زخّات المطر كانت كافية لاقتلاع ما بنوه؛ فالمياه اندفعت سريعًا إلى داخل الخيمة، وأغرقت الملابس والفرش والغذاء.
ولم يجد جودة أمامه سوى نقل عائلته المكوّنة من سبعة أفراد إلى أحد بيوت أقاربه القريبة للاحتماء من البرد ومياه الأمطار.
ويقول شادي لصحيفة فلسطين، وهو واحد من آلاف العائلات التي دمّر الاحتلال منازلها خلال الحرب: "الاحتلال يتعمّد تركنا نموت في الخيام، يمنع إدخال الكرفانات والنايلون والخيام المتينة، وحتى أبسط الأدوات التي قد تساعدنا على الصمود أمام المطر".
ويضيف: "بيوتنا دُمّرت، والآن خيامنا تغرق، ولا أحد يسمع صراخ أطفالنا"، لافتًا إلى أن الأيام القادمة ستكون أصعب على النازحين من الحرب نفسها؛ فالموت هنا لا يأتي من القصف وحده، بل من البرد والجوع وانعدام المأوى.
وفي إحدى زوايا مخيم الشاطئ، يجلس إدريس أبو العمرين أمام منزله المهدّم، بعد أن اضطر لمغادرة خيمته التي ابتلعها المنخفض.
ويقول أبو العمرين لـ"فلسطين": "المطر لم يترك لنا شيئًا، أغرق الخيمة كلها، تبلّلت ملابس الأطفال، وغرق الطعام والفرش، واضطررت أنا وزوجتي وطفلي ابن الخمس سنوات للمبيت عند أقاربي حتى تنتهي هذه الكارثة".
ويشير إلى أن المنخفض هذه المرة كان أشدّ وأقسى، محمّلًا الاحتلال المسؤولية عمّا يتعرّض له النازحون، قائلًا: "لو كان لدينا كرفانات أو خيام قوية لما حدث كل هذا"، مؤكدًا أن الاحتلال يمنع دخول أي شيء يساعدهم، ويتركهم عرضة للمطر والبرد.
وفي أحد مخيمات الإيواء غربي مدينة غزة، يستيقظ الأطفال مذعورين من صوت الرياح والبرد الذي يخترق الخيام، ويقفزون في أحضان أمهاتهم بحثًا عن الدفء.
وتروي أم أحمد محيسن، وهي أم لأربعة أطفال، أنها قضت الليلة الماضية تمسح وجوه أطفالها من المطر المتساقط داخل الخيمة، قائلة: "أطفالي يرتجفون طوال الليل، ليس لدينا بطانيات جافة، ولا مدفأة، ولا مكان نلجأ إليه. نرجو العالم كله أن ينقذ أطفال غزة من البرد".
احتلال يواصل القتل
وفي وقتٍ يغرق القطاع بمياه المنخفض، يستمر الاحتلال في استهداف المدنيين، حتى داخل المناطق التي يُفترض أنها "آمنة". فقد استشهد ثلاثة مدنيين، بينهم الطفل زاهر ناصر شامية (16 عامًا) من مخيم جباليا، بعد أن أطلق قنّاص إسرائيلي النار عليه في أثناء لعبه بالقرب من مخيم حلاوة شمال شرقي القطاع، ومنع الاحتلال أي محاولة لإنقاذه، قبل أن تتقدّم آلية عسكرية وتدهسه، ما أدى إلى انشطار جسده نصفين.
ويجمع النازحون والجهات المحلية على مطلب واحد، وهو إدخال الكرفانات والخيام المتينة والمواد الأساسية فورًا، وإعادة إعمار البيوت المدمّرة، ووقف الاعتداءات التي تزيد معاناة السكان يومًا بعد يوم.
ويقول الطفل يزن أبو حمام لمراسلنا، وهو يرتجف من البرد: "بدي بيت، بدي أغطي حالي، برد كتير، وما في حرامات جافة".
أما النساء فيطلقن صرخة مشتركة: "نريد حماية أطفالنا، لا نريد أن يموتوا من البرد، افتحوا الطريق للمساعدات، لا تتركوا غزة وحدها".
وفي ظل غياب أي أفق سياسي أو إنساني، يواجه سكان غزة موسم الشتاء بأجساد منهكة، وخيام مغمورة، وذكريات بيوت هُدمت، وحياة تُهدَّد كل يوم بمنخفض جديد أو رصاصة جديدة.

