بينما لا تزال مشاهد الدمار الهائل تهيمن على الحياة اليومية في قطاع غزة، تكشف البيانات الرسمية عن بُعد آخر للأزمة، أشد خطورة وأطول عمراً، يتمثل في كارثة بيئية–اقتصادية تتجاوز حدود المشهد المرئي.
فبحسب سلطة جودة البيئة الفلسطينية، تجاوز حجم الركام الناجم عن تدمير المباني والمنشآت أكثر من 60 مليون طن، منها نحو 4 ملايين طن من النفايات الخطرة المنتشرة بين الأنقاض وفي الهواء والتربة والمياه.
هذا الرقم وحده — كما يقول مختصون — كافٍ لوضع غزة أمام واحدة من أعقد الأزمات البيئية في المنطقة، في ظل غياب البنية التحتية اللازمة للتعامل مع هذا الكم الهائل من الملوثات.
وتشير سلطة جودة البيئة إلى أن النفايات الخطرة تشمل مواد شديدة السمية، أبرزها غبار الأسبستوس الناتج عن انهيار أسقف قديمة كانت تستخدمه كعازل، وهو مرتبط بأمراض رئوية وسرطانات مميتة.
كما تحتوي الأنقاض على نفايات إلكترونية تضم معادن ثقيلة مثل الرصاص والزئبق، ومواد كيميائية من مستشفيات ومصانع ومخازن دُمّرت بالكامل، فضلاً عن بقايا متفجرات وحرائق بلاستيكية تطلق مركّبات عضوية ضارة.
هذا الخليط المعقّد من السموم، وفق الخبراء، يضع البيئة الغزية أمام تهديد شامل يمسّ الهواء والمياه والتربة على حد سواء.
ويصف الخبير البيئي نزار الوحيدي المشهد بأنه “أكبر حالة تلوث حضري تشهدها المنطقة في تاريخها الحديث”، مؤكداً أن الخطر الأكبر يتمثل في احتمال تسرب السموم والمعادن الثقيلة إلى الخزان الجوفي، الذي يشكّل الشريان الرئيسي لمياه الشرب في القطاع. ويحذر من أن هذا التسرب قد لا تظهر نتائجه اليوم، لكنه سيترك آثاراً صحية كارثية تمتد لسنوات طويلة.
كما يشير الوحيدي إلى أن الغبار الناعم المتطاير مع حركة الرياح والمركبات يحمل جسيمات دقيقة قد تسبب أمراضاً تنفسية وحساسية مزمنة وربما سرطانات مستقبلية، خاصة لدى الأطفال وكبار السن.
ويضيف لصحيفة "فلسطين" أن التعامل مع الركام دون معدات وقاية يعرّض العمال والسكان المجاورين لمخاطر صحية خطيرة.
ويؤكد ضرورة وضع خطة وطنية عاجلة لإدارة الأزمة تشمل فرز الركام وفصل المواد الخطرة وتخزينها في مواقع محكمة الإغلاق، إلى جانب مراقبة جودة المياه الجوفية، وتهيئة المناطق المتضررة عبر زراعة نباتات محلية تُسهم في تحسين جودة الهواء واستعادة التربة.
أما اقتصاديًا، فيرى الخبير خالد أبو عامر أن حجم الركام يشكّل عبئًا ماليًا هائلًا سيؤثر مباشرة في مسار إعادة الإعمار.
ويشير إلى أن غزة تفتقر للمعدات الثقيلة والمختبرات المتخصصة للتعامل مع النفايات الخطرة، ما يعني ضرورة استقدام تقنيات عالية الكلفة مثل كسارات متنقلة، ومعدات فرز ونقل مؤمّنة، ومختبرات فحص ميدانية.
ويؤكد أبو عامر أن استمرار تراكم الركام سيؤخر عودة المواطنين إلى منازلهم ويعطّل تأهيل البنية التحتية، إذ قد تصبح بعض المناطق غير مناسبة للبناء قبل معالجتها بيئيًا.
ويشدد على أن القانون الدولي يلزم الاحتلال بتحمّل المسؤولية عن النفايات الخطرة الناتجة عن عملياته العسكرية، داعيًا إلى ربط تمويل إعادة الإعمار بخطة واضحة لمعالجة الكارثة البيئية باعتبارها خط الدفاع الأول لحماية سكان غزة واقتصادهم ومستقبلهم.