يقال بأن "الحُلم"، هو ذاك المشهد الذي يدور في بواطننا، يكشف عن أمنياتنا أو مخاوفنا الخفية.. وبعض الأحلام يقظة تسير مع أصحابها في كل حركة وسكنة، كما الطفلة ملاك الأسطل وأشقاؤها الذين أخذت منهم أشهر انتظار فتح معبر رفح مأخذها، وهم ينتظرون "الأمل" على قارعة السياسة، علهم يستطيعون اللحاق بأب يفتقدونه منذ عام.
"بفكر فيه قبل ما تنام .. بنشوفوا في الحلم وخلص".. قالتها "ملاك" (9 سنوات) لشقيقها الأصغر "يوسف" حين ألح على والدته بالسؤال "ايمتة حنشوف بابا؟!".. يبدو أن نفاد صبر الطفلة من كثرة تكرار سؤال شقيقها، ومعايشتها لتفاصيل محاولات والدتها السفر، وسعيها الدؤوب بين المؤسسات الرسمية، فاقترحت عليه ذاك الحل، فعله يشبع بذلك بعضاً من شوقه لأبيه.
فتلك الـ"ملاك" أضناها الانتظار هي وأشقاءؤها الثلاثة وهم يعايشون نوايا السفر، فتارة تنتظر صباح السفر، وأخرى تفكر في وداع رفيقاتها، مجتهدة في حصاد أعلى الدرجات للحصول على تقييم مرتفع من وزارة التربية والتعليم حتى لا يفوتها العام الدراسي إن فوجئوا يوماً بالسفر على حين غرة، وحيناً تسرح في تفكيرها إن كانت ستكون على منصة التكريم السنوي في المدرسة دون والدها، أم أنها ستكون بين ذراعيه!!
أما مالك (7 سنوات)، وأمير (6 سنوات)، ويوسف (4 سنوات)، فمضطرين أن يرسلوا القُبل الإلكترونية إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً في بوابة المعبر السوداء.
فحتى تلك المحادثات القصيرة لم تعد تؤنس شقيقها الأصغر "يوسف" بوالده، ففي آخر محادثة هاتفية بينهما قال له: "بابا ما بدي بوس ع تلفون بدي أبوسك أنت".
هنا تسقط كل معاني وأهداف السياسة حين تصبح حاجزا وعائقاً في طريق "قُبلة" طفل صغير مضى من عمره عام لم يرَ فيه والده، تتوقف أمنياته عند بوابة حديدية تحول بين الأمل والألم حيناً، والحياة والموت وجميع المتناقضات التي يعيشها أهالي قطاع غزة أحياناً أخرى.
سعي دؤوب
وتروي والدة الأشقاء الأسطل تفاصيل انتظارهم للسفر منذ أشهر، بأن معانتهم تلك انعكست على صحة الأطفال النفسية والجسدية، وبات شغلهم الشاغل السؤال عن موعد فتح المنفذ الوحيد لسكان غزة إلى العالم الخارجي.
تقول: "بعد أن غادر أبو مالك قبل نحو عام من الآن، ودع أطفاله مؤكداً لهم أنه سيرسل في طلبهم سريعاً فور ترتيب أمور إقامتهم في تركيا، وما إن استتبت به الحال حتى سعى لإصدار تأشيرات دخول لجميع أفراد أسرته، وأرسل في طلبهم بعد مرور ثلاثة أشهر" .
ومنذ تلك اللحظة سجلت "أم مالك" عائلتها في قوائم المسافرين، وبقيت على أعصابها تتابع أخبار المعبر، وتشارك في الاعتصامات المطالبة بفتحه، وقدمت طلباً لوزارة التربية والتعليم حتى تحصل على تقييم سنوي لأطفالها كي لا يفوتهم العام الدراسي بسبب سفرهم على نهايته.
وبذلت "أم مالك" جهداً لتسافر قبل نهاية العام الدراسي 2015-2016 حتى يتسنى لها ولأطفالها تعلم اللغة التركية وألا تفوتهم سنة دراسية بسبب ذلك.
وفي كل إعلان عن فتح معبر رفح، كانت "الأسطل" تجهز نفسها للسفر ولكن خيبة الأمل كانت تصادفها في كل مرة، لتطيل من فترة مكوثها هنا في قطاع غزة دون زوج أو معين، ما اضطرها للعب دور الأب والأم في آن واحد، وخاصة عند مرض أحدهم واضطرارها للذهاب إلى المستشفى بأحد الأبناء، كما تقول.
عام مضى ولا تزال "أم مالك" لا تعلم إن كان هذا العام سيليه آخر في قوائم الانتظار أو أكثر، فمن يدري ما يمكن أن تفعله السياسة بالآلاف مثلها.
على قارعة الحلم
وتشير الأم إلى أن أكثر ما يزعجها، هو غياب الشخصيات المسؤولة عن الاعتصامات التي تطالب بفتح معبر رفح "فلا نجد من يسمعنا أو يعدنا بأي حلول، حتى أنهم لا يشاركونا في اعتصاماتنا أماما بوابة معبر رفح للمطالبة بفتحها".
وختمت حديثها متسائلة: " كم من الأسر تشتت شملها بسبب معبر رفح؟، كم من طفل بات ليلته في المشفى مفتقداً أباه إلى جواره يهدهد له ويحمل عنه ألمه؟ وكم من طفل كبر بعيداً عن عيني أبيه؟، وكم من فتاة زفت إلى عريسها دون أن يطبع والدها قبلة على جبينها، وكم وكم وكم؟؟".
أم مالك وأطفالها، ليسوا كل الحكاية فثمة غيرهم آلاف ينتظرون على قارعة حلم يسمى معبراً يشتت شمل الأسر، ويلقي بمستقبل مئات الطلبة في بئر سحيق لا يعرف له قرار، ومرضى غدوا أقرب إلى الموت منهم إلى الحياة، وآخرون من حملة الجنسيات والإقامات على طرفي البوابة يهيمون على وجوههم كباحث عن ماء في الصحراء.