لم يكن القرار سهلًا، بل كان الأصعب في حياة وسيم، الشاب العشريني الذي كان يركض بالأمس خلف أحلامه، ليجد نفسه اليوم محاصرًا في سرير أبيض، يتألم بصمت، وجسده يُعلن مرحلة جديدة من الألم.
بعد إصابته خلال القصف، حاول الأطباء بشتى الطرق إنقاذ قدمه، لكن حالتها كانت تتدهور، "في البداية، رفضت التوقيع على إجراء العملية، كنت مصدوم… مش مستعد أودع جزء من جسدي"، يقول وسيم لصحيفة "فلسطين" بصوتٍ خافت.
لم يكن الرفض تحديًا للأطباء، بل صرخة تمرد على واقع قاسٍ لا يُطاق، لكنه مع مرور الأيام والليالي، أصبح الألم لا يُحتمل، مضيفًا: "الوجع ما كان ينام… كان يصحيني، يلاحقني، يأكل فيّ كل لحظة، حسيت إني بموت كل يوم شوي".
وفي النهاية، لم يكن أمامه سوى الخضوع، والتوقيع على ورقة البتر، وبصوت تخنقه الدموع يتابع حديثه: "ما وقّعت من رضاي… وقّعت لأن جسدي لم يتوقف عن الصراخ ولم أعد أحتمل".
ويعود بذاكرته إلى الأول من أغسطس لعام ٢٠٢٤، كان ذاهب برفقة عمه بالقرب من مدرسة دلال المغربي، وألح عليه شقيقه "يزن" ذو العشرة أعوام مرافقته رغم رفضه ومحاولة والده ثنيه إلا أنه أصر، فهو لا يدرك أن خطواته الصغيرة تقترب من كارثة جديدة، ففي لحظة خاطفة، وقبل وصولهم بدقائق إلى محيط مدرسة دلال المغربي، سقط صاروخ إسرائيلي بشكل مفاجئ، شتت أجساد المارة وأصابت الشظايا كل من كان في المكان.
في تلك اللحظة، كان وسيم يتأرجح بين الغياب واليقظة، كمن تُمسِكه الحياة بإصبع وتفلتُه بالآخر، يفتح عينيه للحظاتٍ قصيرة، ولكن كل ما يستذكره أن عينيه كانت تبحث عن يزن وعمه اللذان لم يكونا بجواره ولم يعرف حينها مصيرهما، وعندما استيقظ علم أن شقيقه استشهد وقد دفن دون أن يودعه، وكذلك عمه.
أما وسيم فقد كان جسده مليئا بالشظايا من رأسه حتى رجليه، التي تم إخراج بعضها والبعض الآخر لا يزال يسكن جسده، ويكمل حديثه: "الشظية اللي دخلت في رجلي اليسرى كان إلها مدخل ومخرج… لكن أثرت على الشريان الرئيس، وقطعت الأنسجة والأوتار"، ويحاول أن يشرح بصوت هادئ رغم أن الألم لا يزال يسكن نبرته.
ويتابع: "على مدار 12 يوما وأنا بين الحياة والموت، حاول الأطباء بكل الطرق إنقاذ رجلي، لكن الوضع كان يتدهور يوما بعد يوم… وضعوا لي 24 وحدة دم، جسمي صار ضعيفا، والوجع لا يوصف."
كانت كل محاولة لإنقاذ قدمه تنهكه أكثر، لكنه ظل متمسكًا بالأمل، ويضيف وسيم: "كنت أدعي ما أنبتر، ما بدي أفقد رجلي… بس بعدين عرفت إنه نصيبي، ورضيت".
ذلك الفقد لم يكن فقط جرحًا في الذاكرة، وجسده بل غصة يومية يعيشها بعد أن خطفت منه الحرب والدته التي كانت أغلى ما يملك في الدنيا، ثم عادت وخطفت "يزن" الذي كان مرتبطًا بشقيقه، وضحكته، ولعبته، وكذلك قدمه اليسرى.
وينتظر وسيم دخول اتفاق وقف إطلاق النار مرحلته الثانية، على أمل أن يعود إلى حياته التي سُلبت منه فجأة، فقبل أن تعلن طبول الحرب دويّها المدمر، كان قد أنهى دراسته في الثانوية العامة بالمعهد الأزهري، ووضع قدمه على أولى عتبات التعليم الجامعي، يخطط لحلم، ويبني طموحًا بمستقبل واعد.
لكن جاءت الحرب، وأوقفت الحياة، جمّدت الزمن، وحولت أحلامه إلى أنقاض، لم يعد اليوم يفكر بالجامعة، بل بأبسط مقومات الحياة، بالأمان، بالعلاج، وبأن يعيش يومًا دون وجع وأن يفتح المعبر لأجل السفر واستكمال علاجه وتركيب طرف صناعي ليعود لشبابه وحياته.