في مطلع يونيو/حزيران 2025، استفاقت البلدة القديمة شرقي مدينة غزة على إيقاع جديد من الرعب؛ إذ كانت كل ثلاث أو أربع عمارات تُمنَح مهلة إخلاء قبل أن تُسوّى بالأرض.
تروي والدة محمد عجّور: "كنا نقيس المسافة بدقّة؛ إن كانت العمارة المهددة بعيدة قليلًا بقينا في البيت، نلتصق بالزوايا الأبعد عن الشارع، فشقتنا لم تعد لها جدران… مجرد شوادر بلاستيكية. وإن كانت قريبة جدًا خرجنا إلى الشارع، لأن عمارتنا أصلًا مدمرة؛ قُصفت مرتين، وكنا ننتظر انهيارها مع أي قصف مجاور".
بعد كل غارة، كانوا يعودون لرفع الركام، وإعادة تثبيت الشوادر، ومواصلة الحياة بما تبقى منها. وأحيانًا كانوا يبيتون عند الأقارب. وكان محمد يرفض المبيت خارج البيت، وإذا اضطر، اختار بيت خالته النازحة في "كيدز لاند" على شاطئ البحر.
في تلك الأيام، كانت المجاعة تنهش الجميع. بلغ كيلو الطحين ما بين خمسين وستين شيكلًا، وكان نصيب الفرد رغيفًا واحدًا في اليوم. تقول أمه: "كان محمد يرى الناس عائدين من منطقة النابلسي بأكياس الطحين، ونحن لا نملك حتى حفنة. فاجتمع مع شبان في عمره على الشاطئ، وأخبروه أنهم سيذهبون فجرًا إلى محيط نتساريم حيث تُوزَّع مساعدات أميركية: طحين، سكر، رز، برغل، شوكولاتة، وصلصة… كل ما حُرمنا منه أشهرًا طويلة. محمد لم يكن يعرف الجنوب أصلًا لأننا لم ننزح يومًا، لكنه قال لهم: (خذوني معكم… أريد أن أعود بطعام)".
غادر معهم فجر الأربعاء 11 يونيو/حزيران، في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، دون علم والدته التي ظنت أنه بات عند خالته، فيما اعتقدت الخالة أنه يسهر مع رفاقه على البحر.
يروي أحد الشبان المرافقين: "ما إن وصلنا حتى انهال إطلاق نار كثيف من طائرات كوادكابتر، مع قنابل مضيئة ودخان. كان الدخول والخروج في وقت محدود، الجثث في كل مكان، والجرحى بالعشرات. دخل محمد في الدفعة الثانية، لم يحصل على كرتونة كاملة، لكنه جمع بعض العلب من الأرض. وعند خروجه هاجمته مجموعة، وضع أحدهم سكينًا على رقبته، وسلبوه كل ما معه".
تاه محمد في سوق النصيرات، فصادفه عمه صدفة، فاندهش من هيئته المغبرة، عنّفه وأعطاه مالًا، وأمره بالعودة فورًا إلى غزة وعدم التفكير في الجنوب مجددًا. عاد محمد، ونزل عند خالته، ونام من شدة الإرهاق كما هو.
في اليوم نفسه، كانت والدته ترافق ابنته المصابة بكسر في العمود الفقري بحثًا عن مكان تدريب لاستكمال متطلبات الدبلوم، فعلمت أن محمد ذهب إلى نتساريم. تقول: "غضبت حتى كدت أفقد صوابي، وحلفت أن أكسر رأسه حين أراه".
عادت مشيًا من مخيم الشاطئ عبر طرق فرعية لتجنّب مناطق الخطر قرب الشجاعية، وببطء شديد حتى لا تزيد ألم ابنتها.
قبل المغرب بساعة، وصلت إلى باب العمارة، فرأت محمد ينزل مسرعًا. نادته: "وين رايح؟ تعال… تعال!"
فأجاب: "بدي أروح عند خالتي"، ومضى. "كانت تلك آخر مرة رأته فيها. اتصلت بأختها قائلة: "محمد جاي عندك… طمنيني لما يوصل.. لكنه لم يصل.
آخر من رآه شاب على مفترق النابلسي، سمعه يقول: "بدي أروح على الأميركية".
ومنذ تلك اللحظة انقطع أثره.
بحثت العائلة عنه في ثلاجات الموتى، وبين الشهداء المجهولين، وعلى جسر نتساريم وتحته وفي منطقة الجورة… بلا جدوى. أبلغوا الصليب الأحمر، ثم مؤسسة "هموكيد" الإسرائيلية، التي ردت بعد أيام: "لا يوجد اسمه ضمن قوائم المعتقلين". ومنذ ذلك الحين، يسألون كل أسير يُفرَج عنه، دون أن يعثروا على أي خبر.
تقول والدته: "سمعنا أن جرافة مرّت ذلك اليوم على مجموعة شباب كانوا ينتظرون المساعدات ودفنتهم أحياء. لو كان شهيدًا لزرنا قبره، ولو كان معتقلًا لرفعنا له الأكف… أما هذا المجهول فيحرق قلوبنا".
في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2025، يوم عيد ميلاده العشرين، الذي كان يفخر به قائلًا منذ مطلع العام: "صرت عشرين يا أمي"، وصل خبر من أسير محرَّر: "سمعت اسم محمد عجّور في سجن عوفر المركزي، غرفة 12 أو 13، شاب طويل القامة، عمره بين 19 و21 عامًا، وبدا بخير وصحة جيدة".
منذ ذلك اليوم، تعلّق قلب الأم بهذا الخيط الرفيع، وتنتظر أي أسير سابق من سجن عوفر ليؤكد الخبر.
وتختم بحرقة: "يشهد الله أني صابرة راضية بقضائه، لكن الأيام ثقيلة كسرت فينا ما لا يُصلح. اللهم اربط على قلبي، وارحم ولدي حيًّا أو ميتًا، واجمعني به في جنّتك".