فلسطين أون لاين

غزة بين هدنةٍ منتهكة وواقعٍ دموي

الاحتلال يوسّع استهدافه للمدنيين رغم اتفاق وقف إطلاق النار

...
صورة من الأرشيف
غزة/ جمال غيث:

لم تدرك الحاجة رحمة ياسين، التي تجاوزت السبعين من عمرها، أن خروجها مساء السبت الماضي بصحبة نجلها الشاب سعيد ياسين (25 عامًا)، من محيط مسجد الشمعة في حي الزيتون جنوب شرق مدينة غزة، بهدف الوصول إلى المستشفى الأهلي العربي "المعمداني" لتلقي العلاج، سيكون رحلتها الأخيرة.

فقبل أن تتمكن الأم ونجلها من عبور شارع صلاح الدين، فتحت طائرات الاحتلال من طراز "كوادكابتر" نيرانها بشكل مباشر عليهما، ليسقطا شهيدين في لحظات، وفق ما أكده المتحدث باسم الدفاع المدني محمود بصل.

وقال بصل إن قوات الاحتلال استهدفت الأم وابنها في أثناء توجههما للعلاج، في منطقة تُصنَّف آمنة، وتقع على بعد مئات الأمتار فقط من "الخط الأصفر"، وهو الخط الذي يفترض أن يشكّل نطاق انسحاب جيش الاحتلال، وفق المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في أكتوبر/تشرين الأول الماضي بوساطة دولية قطرية–مصرية–تركية–أميركية.

وأضاف في تصريح له مساء أول من أمس، أن إطلاق النار تم دون أي مبرر، مؤكدًا أن الأم والابن ارتقيا على الفور.

وعلى الرغم من أن حي الشمعة والمناطق المجاورة له يُفترض أن تكون ضمن المناطق المسموح للمدنيين بالوصول إليها، فإن السكان يؤكدون أن الاحتلال ما يزال يمارس إطلاق النار المباشر والعشوائي، ويتعمد استهداف كل من يحاول العودة إلى منزله أو عبور الطرقات القريبة من الخط الشرقي.

خروقات مستمرة

يقول حسان الحرازين، أحد سكان حي الشجاعية، إن الاحتلال لم يلتزم يومًا باتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيّز التنفيذ في 10 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

ويشير الحرازين لصحيفة "فلسطين" إلى أن عشرات المواطنين تعرضوا لإصابات برصاص الاحتلال، سواء من القناصة أو الطائرات المسيّرة التي تحلّق على ارتفاعات منخفضة في المناطق المحيطة بشارع صلاح الدين ومنطقة الشمعة.

ويضيف أن عددًا من سكان حيّي الساحة والزيتون أُصيبوا في الأيام الأخيرة خلال محاولتهم التنقل داخل أحيائهم، موضحًا أنه يتجنب الوصول إلى منزله المدمر شرق الشجاعية خشية الاستهداف، في ظل تمركز قوات الاحتلال في تلك المنطقة وإطلاقها النار على أي حركة.

أما جهاد سكر، من سكان حي الزيتون، فيؤكد أن الاحتلال لم يلتزم بأي شكل باتفاق وقف إطلاق النار، بل يستهدف المدنيين قرب منازلهم المدمرة، خصوصًا في المناطق الشرقية التي يُفترض أنها خارج نطاق العمليات العسكرية.

ويشير إلى أن جيش الاحتلال يتجاوز "الخطين الأصفر والأحمر" اللذين حددهما الاتفاق، ويتصرف كما لو أنه فوق كل القوانين والاتفاقيات، مستهدفًا النساء والأطفال دون تمييز.

الخط الأصفر

بعد دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ في 10 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، انسحب جيش الاحتلال من عمق محافظات قطاع غزة إلى ما يُعرف بـ"الخط الأصفر"، وهو خط يُفترض أن يشكّل منطقة عازلة بين القوات المحتلة والمدنيين العائدين إلى منازلهم.

GettyImages-2247179054.jpg
 

وبحسب الخرائط المنشورة، لا يزال الاحتلال يُسيطر على نحو 50% من مساحة القطاع، بانتظار تنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق، ما أبقى مئات آلاف السكان ممنوعين من العودة إلى بيوتهم، خصوصًا في مدينتي رفح، وشرقي خان يونس، وشرق مدينة غزة، وبلدتي بيت لاهيا وبيت حانون.

لكن شهادات السكان تؤكد أن الاحتلال لم يكتفِ بالحفاظ على سيطرته على المناطق التي نص عليها الاتفاق، بل تجاوزها فعليًا.

ويقول علاء النمر، من سكان منطقة الجرن شمال مدينة غزة، إن قوات الاحتلال تطلق النار بشكل متواصل على المواطنين الذين يحاولون الاقتراب من منازلهم القريبة من الخط الأصفر.

ويضيف النمر لـ"فلسطين" أن آليات الاحتلال تتقدّم أحيانًا داخل المناطق التي يُفترض أن تكون خالية من القوات العسكرية، وكأنها توجه رسالة بأنها صاحبة السيطرة الكاملة، رغم وجود اتفاقات دولية تُلزمها بالتراجع.

ويطالب النمر الوسطاء الدوليين بالتدخل العاجل للضغط على الاحتلال ومنعه من مواصلة خرق الاتفاق، محذرًا من أن استمرار هذه السياسة يُكرّس حالة نزوح قسري جديدة، ويمنع السكان من العودة إلى حياتهم الطبيعية.

ويؤكد أن عشرات المدنيين، ولا سيما النساء والأطفال، تعرضوا لإطلاق نار أثناء محاولتهم الوصول إلى منازلهم في المناطق المحاذية للخط الأصفر، مشيرًا إلى أن الاحتلال يستهدف حتى المناطق التي أعلن سابقًا أنها "آمنة"، ما يجعل العودة شبه مستحيلة.

 

اتفاق بلا حماية

يطالب مواطنون، في أحاديث منفصلة لـ"فلسطين"، الدولَ الضامنة لاتفاق وقف إطلاق النار بتحمّل مسؤولياتها، ووقف خروقات الاحتلال المتواصلة.

ويرى السكان أن الاتفاق أصبح بلا حماية فعلية في ظل غياب الرقابة الدولية الجادة، واستمرار إغلاق المعابر، وتأخر الانسحاب من مساحات واسعة من القطاع، وإطلاق الاحتلال النار على كل من يقترب من خطوط التماس.

ويضيف المواطنون أن الوضع الإنساني في غزة لن يتحسن ما دامت هذه الانتهاكات مستمرة، داعين إلى إعادة إعمار ما دمّره الاحتلال، وتوفير عودة آمنة للمدنيين إلى أحيائهم.

ورغم مرور شهرين على دخول الاتفاق حيّز التنفيذ، تواصل قوات الاحتلال خروقاتها، إذ أعلنت وزارة الصحة في غزة، نقل ستة شهداء خلال الساعات الـ48 الماضية، بينهم خمسة جثامين انتُشلت من مناطق الاستهداف، إضافة إلى 15 جريحًا أُصيبوا بنيران الاحتلال.

وتُعيد مشاهد القتل اليومية إلى الأذهان ما عاشته غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، حين شنّ الاحتلال، بدعم أميركي، حملة عسكرية واسعة شملت القتل والتجويع والتدمير والتهجير والاعتقال.

وقد أسفرت هذه الإبادة عن أكثر من 239 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح، معظمهم من النساء والأطفال، فيما لا يزال أكثر من 11 ألف مفقود تحت الركام، إضافة إلى مئات آلاف النازحين الذين أنهكتهم المجاعة والبرد وانعدام الأمن.

ورغم ذلك كله، يواصل الاحتلال خروقاته اليومية دون اكتراث بالاتفاقيات الدولية أو الدعوات إلى وقف إطلاق النار، فيما يواجه المدنيون وحدهم واقعًا دمويًا لا ينسجم مع أي حديث عن هدنة أو سلام.

 

المصدر / فلسطين أون لاين