داخل قسم الأطفال في مستشفى ناصر بمدينة خان يونس جنوبي القطاع، يرقد جسدٌ صغير لا يكاد يتجاوز وزنه أربعة كيلوغرامات. إنها لميس إبراهيم أبو مصطفى، التي لم تتجاوز الستة أشهر، لكنها خاضت من الألم ما لا يطيقه الكبار.
وُلدت لميس في السادس من يونيو/حزيران 2025، وكانت تبدو في أيامها الأولى طفلة طبيعية، جاء وزنها عند الولادة 3.7 كيلوغرامات، وبدأت تزداد بشكل جيد خلال الشهرين الأولين. لكن فجأة ظهرت على جسدها حبوب صفراء كبيرة، أخبر الأطباء حينها العائلة أنها "أمر طبيعي".
لم تمضِ أيام حتى بدأت الحرارة بالارتفاع بشكل متكرر، تلازمها نوبات إسهال واستفراغ وضعف واضح في الشهية، كما يروي والدها المكلوم إبراهيم أبو مصطفى (27 عاماً) لصحيفة "فلسطين".
هذه الأعراض لم تكن جديدة على إبراهيم… فقد عاشها قبل عامين مع ابنته ميس التي وُلدت في بداية الحرب وتوفيت بعد ستة أشهر بالضبط في 25 يناير/كانون الثاني 2024. "نفس المرض، نفس المعاناة، ونفس العجز… حاولت أعمل كل شيء بس ما لحّقنا"، يقول بصوت متهدّج.
قبل شهر، تدهورت حالة لميس بشكل خطير، فدخلت مستشفى ناصر لمدة عشرة أيام. وبعد خروجها بيومين فقط، عادت الأعراض ذاتها بسبب البرد القارس في الخيام التي يعيش فيها والدها بعد نزوحه إلى "الحي الياباني" غربي مدينة خانيونس. هذه المرة لم تغادر المستشفى، حيث أمضت 15 يوماً متواصلة وهي تتلقى العلاج وسط معاناة مرهقة.
بعد سلسلة فحوصات، أبلغ الأطباء والد لميس أن طفلته تعاني من نقص شديد في المناعة، وأن حالتها تتطلب علاجاً عاجلاً في الخارج وإجراء زراعة نخاع، وهو إجراء غير متوفر في قطاع غزة بسبب تدمير البنية الصحية وانهيار المستشفيات خلال الحرب.
يقول إبراهيم لصحيفة "فلسطين": "اليوم ما ضلّ أوردة في جسمها… الإبرة ما بتلاقي مكان. بنتي بتنزل وزنها، ما بترضَع ولا طبيعي ولا صناعي".
اضطرت الطواقم الطبية لوضع أنبوب تغذية عبر الأنف، وتُقدَّم لها كميات صغيرة من الحليب عبر "السرنجة". ورغم متابعة الأطباء لها، فإن ما يُقدّم لها لا يكفي لتعويض سوء التغذية الذي تسبب فيه المرض ونقص المناعة.
يحتفظ إبراهيم بأوراق التحويلة الطبية العاجلة التي صدرت قبل شهرين، ويقول بحسرة: "إلها تحويلة، جاهزة… بس ما حدا اتواصل معي. لا من وزارة الصحة ولا من منظمة الصحة العالمية. بنتي بس بدها تطلع تتعالج… لو يوم واحد".
تأتي مأساة لميس في سياق أزمة إنسانية خانقة يعيشها قطاع غزة منذ انهيار المنظومة الصحية بفعل الحصار والعدوان. فبحسب بيانات وزارة الصحة، هناك آلاف المرضى – من بينهم أطفال يعانون أمراضاً وراثية ومناعية – ينتظرون تحويلات للعلاج خارج القطاع، لكن إغلاق المعابر وعدم وجود ممرات آمنة يمنعهم من السفر، ما أدى إلى وفاة العشرات خلال الأشهر الماضية.
بينما يراقب إبراهيم ابنته تتشبث بالحياة، لا يخفي خوفه من تكرار مأساة ميس. يقف قرب سريرها ويقول: "أنا عايش كابوس مكرر… دفنت بنت، وما بدي أدفن الثانية. رسالتي للعالم: بنتي لازم تطلع تتعالج، بدها فرصة حياة".
لميس اليوم لا تعرف شيئاً عن الحرب أو الحصار، ولا عن ضعف المنظومة الصحية. كل ما تعرفه هو أنها تحاول أن تتنفس، أن تبتلع قليلاً من الحليب عبر الأنبوب، وأن تبقى حيّة يوماً آخر… لعل باباً يُفتح، أو معبراً يُفتح، أو حياة يمكن أن تبدأ من جديد.
تجدر الإشارة إلى أن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) أعلنت تسجيل نحو 9 آلاف و300 حالة سوء تغذية حاد بين الأطفال دون سن الخامسة في قطاع غزة خلال أكتوبر/تشرين الأول الماضي، محذّرة من تفاقم الوضع الإنساني مع دخول فصل الشتاء وشحّ المواد الغذائية.
وقالت المنظمة في بيان إن مستويات سوء التغذية المرتفعة "تعرّض حياة الأطفال للخطر"، مشيرة إلى أن الشتاء يزيد مخاطر الأمراض ونسب الوفيات لدى الفئات الأكثر ضعفا.
وأوضحت أن فحوصات التغذية أظهرت ارتفاعا حادا في حالات العجز الغذائي، في ظل نقص المواد الأساسية وارتفاع أسعار الأغذية الحيوانية المصدر، مما يجعلها خارج متناول غالبية سكان القطاع.