قائمة الموقع

من صمودٍ مُعلَن إلى علاجٍ سرّي.. رحلة النساء مع الألم النفسي في غزة

2025-12-05T15:27:00+02:00
صورة من الأرشيف
فلسطين أون لاين

لم تكن الحرب على غزة مجرد قصفٍ ومجاعةٍ ونزوح، بل كانت أيضًا حربًا على العقول والنفوس، التي انهارت تحت ثقل فقدان الأمان وتلاشي شبكات الدعم الاجتماعي.

خلف أبواب الخيام ومراكز الإيواء، انفجر صمتٌ طويل عن آلامٍ نفسية دُفنت لسنوات تحت عناوين مثل "قوة الشخصية" و"الصبر"، بينما كانت الحقيقة مرضًا يتفاقم في الخفاء.

طباع صعبة

سعاد – اسم مستعار لامرأة في الخمسين من عمرها – مطلقة وتعيش وحيدة بعد سفر أبنائها الأربعة إلى الخارج. مع بداية الحرب، بدأت تظهر عليها أعراض اضطراب نفسي، لكن أحدًا لم ينتبه إلى حجم المعاناة. إخوتها الأحد عشر فرّقهم النزوح، فانشغل كلٌ بتدبير حياته، فيما كانت سعاد تتنقل من مأوى إلى آخر، تفتعل المشكلات، وتُفسَّر تصرفاتها على أنها "طباع صعبة". لم يدرك أحد أن تلك السلوكيات كانت استغاثةً غير منطوقة من عقلٍ يتهاوى.

ومع مرور الشهور، تدهورت حالتها أكثر؛ فقدت اتصالها بالواقع وراحت تصدر عنها تصرفات غير مفهومة. كان الوصول إلى طبيب نفسي أثناء النزوح ضربًا من المستحيل، كما أن الاعتراف بالحاجة إلى العلاج ظل مرفوضًا من العائلة التي رأت فيه "عارًا اجتماعيًا".

"ماذا سيقول الناس عنّا؟" كان هذا السؤال حاجزًا أقسى من المرض نفسه.

تقول شقيقتها، التي رافقتها لاحقًا في رحلة العلاج، لصحيفة "فلسطين" إن الأطباء شخّصوا حالتها بانفصام الشخصية، وإن التعامل معها كان مرهقًا بسبب إنكارها المرض ورفضها تناول الدواء. كان الانهيار النفسي يحاصرها، بينما تحاصرها العائلة بالخوف من "السمعة".

عزلة مؤلمة

لم تكن سعاد حالة فردية، بل واحدة من نساء كثيرات انهارت نفوسهن تحت وقع الحرب. عفاف، التي كانت رمزًا للعطاء، تحمل قصة أخرى للانكسار. كانت المرأة التي يلجأ إليها الجميع في الأزمات، تدعمهم ماديًا ومعنويًا، حتى إنها كانت تستدين لتساعد غيرها، لكنها حين سقطت، لم تمتد إليها يد.

انهارت عفاف تحت وطأة الخذلان. انكمشت حياتها الاجتماعية وغرقت في عزلة مؤلمة، وبدأت نوبات عصبية ترعب أبناءها الذين صاروا يهربون منها. كانت تفقد السيطرة على جسدها عند أقل مشكلة؛ تتشنج أطرافها، تتسارع دقات قلبها وتختنق أنفاسها. كانت تلك صرخة جسد لم يعد يحتمل.

حين حاولت أن تفضفض لزوجها، طمأنها بأنها مجرد "ضغوط". حاولت أن تصدق، لكنها كانت تشعر أن ما تمر به تجاوز حدود التعب والتحمل، وأنها تسقط في منطقة مظلمة لا تعرف كيف تخرج منها.

بعد صراع طويل، قصدت أقرب عيادة حكومية. لاحقتها نظرات الاستغراب فور دخولها، حتى سألتها الأخصائية: "هل أنتِ متأكدة أنكِ تعانين من مشكلة نفسية؟"

لكن ما إن بدأت تسرد، تبدّلت النظرة، وأُحيلت إلى طبيبة نفسية شخّصتها بالاكتئاب.

منذ ستة أشهر، تتناول العلاج الدوائي، وتبحث بلا توقف عن جلسات علاج سلوكي، حتى وجدت أخيرًا عيادة توفّرها.

اليوم، تتلقى علاجها سرًا. لا تخبر أحدًا، ولا حتى المقربين منها، خشية الشفقة أو السخرية أو التأثير على مستقبل بناتها. تقول إنها لا تأمن ردّة فعل المجتمع "الذي يُحاكم المريض بدل أن يعالجه".

هذه الشهادات ليست استثناء، بل انعكاس لأزمةٍ جماعية تُظهر كيف حوّل النزوح والفقدان النساء من داعماتٍ أقوياء إلى ناجيات يبحثن عن الشفاء سرًا.

وبحسب تقرير صادر عن منظمة ACAPS (سبتمبر 2024)، أسهم النزاع في ارتفاع كبير بحالات الاكتئاب والقلق واضطرابات الصدمة، مع تزايد الرغبة في الموت بين البالغين والأطفال بسبب التهجير المستمر والحرمان. وقدّمت منظمات مثل "أطباء بلا حدود" (MSF) و"اللجنة الطبية الدولية" (IMC) أكثر من 7.8 ملايين استشارة طبية، من بينها خدمات دعم نفسي، إلا أن القيود المفروضة على الوصول ما تزال تعيق الجهود.

التحوّل الخفي

لم ينفصل هذا التحوّل في حياة النساء عن السياق الأوسع للحرب. تؤكد الأخصائية النفسية سهام أصليح أن السنوات الأخيرة غيّرت جذريًا طريقة نظر المجتمع إلى العلاج النفسي، ليس لأن الوصمة زالت، بل لأن حجم الانهيار فاق قدرة الناس على الصمت والتحمّل.

وتقول أصليح لـ"فلسطين" إن فرق الدعم النفسي لاحظت أن النساء كنّ الأكثر طلبًا للمساعدة خلال النزوح، مشيرة إلى أن المرأة كانت الأكثر هشاشة تحت ضغط المسؤوليات وفقدان المنزل أو الزوج أو أحد أفراد الأسرة، إلى جانب بروز ظواهر الزواج المبكر والقسري تحت ضغط الفقر والمجاعة.

وتضيف أن دور المرأة تضاعف باعتبارها مقدّمة الرعاية الأولى داخل الأسرة؛ فهي التي تلاحظ تغيرات الأطفال وتبحث لهم عن المساعدة، ثم لنفسها، بينما يميل كثير من الرجال إلى إنكار المشكلة أو تأجيل الاعتراف بها.

وتوضّح أن الحرب لم تكن جولة قصف عابرة، بل "إبادة جماعية مكتملة المعايير: نزوح متكرر، مجاعة، فقدان، دمار، وانهيار منظومات الدعم"، وهو ما أدّى إلى ارتفاع الطلب على الإرشاد النفسي بعد انتقال الناس من مرحلة "الصمود" إلى الانهيار.

وتلفت أصليح إلى أن الخيام ومراكز النزوح أدّت دورًا غير متوقع في كسر حاجز الخوف من العلاج النفسي، حيث افتُتحت خيام مخصصة للدعم النفسي داخل المخيمات، ما خلق وعيًا بوجود خدمات مجانية وسرية تحفظ الكرامة.

وتشير إلى أن العلاج النفسي ليس "حلًا سحريًا"، بل دعم يساعد الفرد على فهم أزمته وإدارتها. فالكثير من الحالات، كما تقول، لا تحتاج دواء، بل جلسات إرشادية تتراوح بين ثماني وعشر جلسات ضمن مجموعات علاجية، حيث يكتشف الشخص أنه "ليس وحده".

أما القضايا الحساسة، كالعنف الجنسي والإساءات النفسية المعقدة، فتُخصَّص لها جلسات فردية لضمان الخصوصية ومنع إعادة الصدمة.

وتؤكد أهمية تدريب الأهالي على فهم استجابات الأطفال، قائلة: "كان صراخ الأطفال أثناء القصف رد فعل طبيعي في ظرف غير طبيعي، لكن حين يستمر الذعر بعد انتهاء القصف، فهنا نحن أمام حاجة ملحة للتدخل النفسي".

وترى أصليح أن الحرب أجبرت المجتمع على بداية تغيير في نظرته للعلاج النفسي، لكن الطريق لا يزال طويلًا، فكثير من النساء ما زلن يتلقين العلاج في صمت خوفًا من الوصم.

وتختم بقولها: "نحن في بداية تحوّل حقيقي، لكن المجتمع لم يصل بعد إلى مرحلة التعامل مع المرض النفسي كأي مرض آخر يحتاج اعترافًا وعلاجًا وتعاطفًا، لا إنكارًا ووصمًا".

اخبار ذات صلة