قائمة الموقع

في ذكرى ميلاده "عبد الله حمد" ينال الشهادة مشتبكًا بأنفاق رفح

2025-12-04T08:42:00+02:00
الشهيد عبد الله حمد نجل القيادي في حركة المقاومة الإسلامية "حماس" وعضو وفدها المفاوض غازي حمد
فلسطين أون لاين

"خلص روح؛ وأنا بلحقك" بهذه الجملة انتهى نقاش محمد غازي حمد الذي كان يجلس بداخل السيارة محاولاً النزوح من رفح كآخر الخارجين من المدينة بعد نقض الاحتلال لاتفاق وقف إطلاق النار الأول، مع شقيقه الأصغر "عبد لله" الذي كان يجلس على درجات البيت بعدما كان يدعوه للركوب معه، لتغادر السيارة ويفترق الشقيقان اللذان أمضيا اثني عشر يومًا وحدهما في المنزل بعد نزوح السكان، مضى محمد ليلتحق الأكبر بعائلته في 30 مارس/ آذار 2025.

وحين وصل محمد إلى مواصي خان يونس، حاول الاتصال بشقيقه، لكن عبد الله لم يجب. بعد دقائق أرسل آخر رسالة، كانت أقرب إلى الوصية، تحمل كلمات وداع هادئة: "دير بالك على أمي وخواتي… أنا رايح مع الشباب". ثم أغلق هاتفه، وانقطعت أخباره عن العائلة.

لثمانية أشهر ظلت أخبار عبد الله غائبة عن العائلة، لكن كانت تصلها أخبار مطمئنة ومليئة بالعز والفخر بين فينة وأخرى، لبطولاته في معارك الميدان، متنقلا بين أنفاق ومنازل رفح، مشتبكًا مقاومًا، مغتنما قطعة سلاح "تافور" من أحد جنود جيش الاحتلال، اغتنمها وقاتل واشتبك بها حتى استشهد وهو يحملها، بعد أيام من الحصار الشديد.

الأب يفاوض والابن يقاتل

وعبد الله هو نجل عضو المكتب السياسي لحماس وعضو وفدها المفاوض د. غازي حمد، فبينما كان الأبُ يقاتلُ في ميدان السياسة، مفاوضًا عن مليونين وأربعمائة ألف إنسان تُصبّ على رؤوسهم نار الإبادة، كان نجله عبد الله يقاتل في أعقد ميادين القتال في رفح جنوب القطاع، حيث يفرض الاحتلال قبضته.

بتلك الدماء يؤكد قادة المقاومة أنهم لم يكونوا يومًا بمعزل عن الميدان، تمترس الأب على مبدأٍ لا يقبل المساومة: وقف الإبادة قبل كل شيء. وتمترس الابن في أنفاق رفح، رافضًا أن يرفع يديه كما أراد الاحتلال، في صورة أرادها خاتمة للحرب، تهز معنويات المقاومة وتمنحه نصرًا مزعومًا. لكن المقاومين، رغم الجوع والعطش، لم يمنحوهم تلك اللحظة.

يرحل ابن القائد الذي اتُّهم زورًا بأنه يعيش في فنادق، مجوَّعًا محاصَرًا عطِشًا، رحيلًا ملحميًا، ذلك الشاب الذي خرج من ميادين التدريب الحكومية إلى ميادين الاشتباك الحقيقي، يغيب عن عائلته ثمانية أشهر انقطع خلالها كل تواصل، يتنقل بين أحياء رفح، يسجّل البطولات، ويخوض الاشتباكات.

بقلبٍ مثقل بالفقد، وصوت يملؤه الحزن كلما استعاد التفاصيل، يحكي محمد لـ "فلسطين أون لاين" عن آخر اللحظات التي جمعته بشقيقه عبد الله: "بقينا في البيت ولم نغادر بعد نزوح العائلة، كنا في نفس البيت حتى نفد الطعام بعد نزوح الأهالي، وكنت أذهب مسافة بعيدة للحصول على طعام. هذه الأيام الإثنا عشر لم نعشها معا منذ سنوات طويلة، فهو ضابط بكلية الشرطة ويبقي في الكلية طيلة أيام الأسبوع ويعود يوم الخميس، بينما انشغلت في الحرب بالعمل الإغاثي، فكان السند للعائلة والقائم بأعمال واحتياجات البيت في غيابي".

بقيت ابتسامة شقيقه الأخيرة عالقة في ذاكرة محمد، يحضره صوت عبد الله من نوافذ الذاكرة: "قلت له: "تعال إركب معي للنزوح" ولكنه أخبرني أنه سيلحق بي، ولم أدرك أنه يخطط لشيء آخر إلا عندما أرسل الرسالة، كان وقتها شهر رمضان، وكان يكثر من الصلاة. استشهد أخي يوم 28 نوفمبر/ تشرين ثاني 2025 وبعد يومين أعلن الاحتلال عن استشهاده، كان دائما أخي دائما لديه شعور أنه سيرحل في يوم ميلاده".

لم تنقطع أخبار عبد الله عن عائلته تمامًا، فكانت جملة "هو بخير مع الشباب" التي تأتيهم من أرض الميدان، كفيلة بتبريد مخاوفهم، يقول شقيقه: "كان برفقة قائد الكتيبة، وعلمت أن أخي كان يحاول إرسال وصية لنا مع أحد الشباب لكن الأخير تأخر يوما وبعدها أغلق الاحتلال جميع الطرق. كانت جميع الأخبار التي تصلنا أنه يثخن في جيش الاحتلال بطريقة تعجبت منه".

بطولات ملحمية

وتابع بنبرات ممزوجة بين الفخر والحزن في آن واحد: "عبد الله الهادئ ما كان يخرج منه هذا، إلا أن الله هيأ له الأمور ليكون جنديًا مقدامًا. كوني نازح على أطراف رفح، كنت أستيقظ فجرًا، وأتذكر أن أخي بعيد عن مسافة ليست بعيدة، يمكنني الوصول إليه بوقت قصير، ولا أستطيع أن أقدم له لقمة طعام أو شربة ماء، وهذا ما كان يجعل والدتي تبكي يوميًا. يوم استشهاده استيقظت بشعور غريب، شعرت فعلا أنه يوم الشهادة وشاركت شقيقتي هذا الشعور، وبعد ساعتين جرى الإعلان عن استشهاده".

لم يكن عبد الله بالنسبة لشقيقه شخصًا مفقودًا منذ لحظة انقطاع أخباره، فـ"المفقود هو الذي ضيع الطريق، وأخي شخص يعلم أين يريد الذهاب، ونهاية الطريق وبالنسبة لنا كان بطلا، رحيله ثقيل على قلبي، كنت أعتبره توأما لي، فنحن نتقارب بالأعمار ويفصلنا خمس سنوات على من يلينا من الأخوة، ما كان يدمي القلب أنه كنا نسمع عن محاصرتهم وأنهم جائعون".

عرف عبد الله أنه شخص هادئ، خجول تقي حليم لا يرضى الظلم، وإذا علم شخصا مظلوما ظل مساندا له حتى يرد له مظلمته وإن كان لا يعرفه، لكن التحاقه بالكلية العسكرية أعطاه شخصية حازمة أكثر، يحكي شقيقه عن ذلك: "كان طيبا حنونا، بلحظة يغضب وبلحظة يهدأ ويأتي للاعتذار.

"كانت علاقتنا متينة، كنا كتوأم، دائمًا نخرج ونذهب معًا. في النزوح الأول لرفح في مايو/ أيار 2024، نزحنا بعد تقدم جيش الاحتلال تجاهنا، وأراد البقاء لكن ذهب معا مجبرا بعد طلب أمي منه النزوح، وسيطر عليه شعور حبها له، وفي المرة الثاني وحتى لا يتأثر بحبه لأمه وارتباطه بالعائلة أغلق الهاتف ولم يحدثنا" يستذكر.

كما كان الشهيد وفيا لعائلته امتد الوفاء لخارج البيت، تعج حياته خلال الحرب بمواقف كثيرة يحضر أحدها حديث شقيقه: "كان لديه صديق استشهد خلال الحرب، وعندما نزحت عائلته إلى المحافظات الجنوبية، اعتبر أخي نفسه ابنا لعائلة صديقه، ويوميا كان يذهب لهم بالطعام والشراب".

ولم يكتف بذلك، يروي "كان كثيرا يأتي لأمي ويأخذ أي شيء بالبيت، ويذهب به لأهالي الشهداء والمحتاجين، كانت أمي تمازحه معجبة بأفعاله: "أنت زي القرع بمد برا"، فكان دائما يفتدي بنفسه وأهل لأجل المتعبين والفقراء وعائلات الشهداء والأسرى، فكان عملا خيرا يتحرك على الأرض".

وعبد الله هو الشهيد الأول للدكتور غازي حمد، يعد شقيقه الشهادة التي نالها "وسام شرف يوضع على صدورها"، ويستذكر مشهد عودة والده للبيت بعد 11 يوما من الحرب خلال عام 2021، مستحضرا تعابير وجهه والتي رسمت خيوطا من الحزن أدهشت الأبناء: "قال لنا يومها: "ولا واحد فيكم شهيد؟"، ودعا الله أن يسبقنا إلى الشهادة وأن نلتحق به".

يملأ الفخر صوت محمد: "جاءت شهادة عبد الله لتعزنا وتشرفنا جميعا، وتوضع كوسام فخر، كان أخي عبد الله يحب أن ينادوه الناس عبد الله حمد، ويحب إخفاء اسم والده حتى لا يتم معاملته بطريقة مغايرة، وكان لا يحب التمييز".

ولطالما تعرضت العائلة لاتهامات بأنها تعيش في فنادق، ليتبين بشهادة عبد الله أن أبناءها يتقدمون أصعب الصفوف ويعيشون أقسى الظروف، يعلق شقيقه: "دماء أخي نور تمشي بين الخلائق، الباطل مهما روج يأبي الله إلا أن يفضحه في وقت من الأوقات. في لحظة أصابتنا سهام صورت عائلتنا أننا نعيش في قصور وترف لا يمت للواقع بصلة، وصنعوا أوهاما، وأن المفاوضين تركوا أبناء القسام، ليتبين أن أحد أبناء المفاوضين شهيدا، ففضح استشهاد أخي كل ذلك، وكان يقاتل عطشا محاصرا لأجل القضية وإزالة الاحتلال عن أرضنا".

اخبار ذات صلة