بين رياح عاتية وأمطار لا ترحم، يستقبل آلاف النازحين في قطاع غزة المنخفض الشتوي الثاني بقلوب مرتجفة وأجساد منهكة، داخل خيام لا تقي بردًا ولا تحمي من الغرق. شتاء آخر يطرق أبواب المشرّدين قسرًا، محمّلًا بمخاوف جديدة، في ظل حصار خانق وغياب شبه كامل للمساعدات الإنسانية، ليغدو البرد خصمًا إضافيًا في معركة البقاء، ويصبح الدعاء السلاح الوحيد في مواجهة قسوة الطقس وقسوة الحرب معًا.
النازحون الذين أجبرتهم حرب الإبادة، التي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي منذ عامين، على مغادرة منازلهم المدمرة، يجدون أنفسهم اليوم محاصرين داخل خيام مؤقتة أو في مدارس ومراكز إيواء تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة.
تقول أم خالد الغف، وهي أم لأربعة أطفال: "كل ما نملكه الآن هو الدعاء إلى الله أن يحمينا من البرد والمطر. الخيام لا تقي من الرياح ولا من الأمطار الغزيرة، ونعيش كل يوم على أمل ألا يصيب أطفالنا مكروه".
وتوضح الغف لصحيفة "فلسطين" أنها لا تجد ملجأً سوى التضرع إلى الله، بعد أن فقدت الأمل في العالم الذي تخاذل عن نصرة غزة والدفاع عنها، أو حتى إدخال المساعدات الضرورية لأهلها.
أما يوسف دلول، شاب يعيش مع أسرته في إحدى مدارس الإيواء، فيصف الوضع قائلاً: "المطر يزيد معاناتنا سوءًا، والأغطية قليلة جدًا، ولا تدخل مساعدات، كما أننا لا نملك المال للشراء بسبب غلاء الأسعار".
ويشير إلى أنهم بحاجة ماسة إلى لفافات نايلون لتغطية النوافذ التي تحطم زجاجها بفعل القصف، ومنع تسرب الهواء البارد إلى داخل الصف المكتظ بأكثر من 15 فردًا، معظمهم من النساء والأطفال، يعيشون في ظروف مهينة للحياة الإنسانية.
بدورها، تقول منى عيسى، وهي أم لطفلين: "الشتاء هذا العام أصعب بكثير، فنحن نبحث يوميًا عن وسيلة لتدفئة أطفالنا والحفاظ على صحتهم، لكن الإمكانيات شبه معدومة، ونشعر بعجز كامل".
وتضيف لـ"فلسطين" أن طفليها يمرضون بسرعة بسبب البرد، وأنها وزوجها المصاب جراء قصف الاحتلال على منازلهم عاجزان عن توفير أي وسيلة للتدفئة، قائلة: "نشعر أننا محاصرون بين الحرب والبرد القارس، ونفتقد الأدوية غير المتوفرة في العيادات الحكومية ولا في الصيدليات".
أما أحمد السوافيري، الذي اضطر إلى إقامة خيمة من الشوادر لبيع بعض الخضار لإعالة أسرته، فقد أطاح المنخفض الجوي الأخير بخيمته، ويقول: "لا أدري ماذا أفعل، فكلما حاولنا التقدّم خطوة إلى الأمام، هدمت الظروف كل ما بنيناه وأعادتنا إلى نقطة الصفر، وكأن حلمنا بحياة كريمة أصبح محرّمًا علينا".
ويضيف في حديثه لـ"فلسطين": "حتى خيامنا لم تعد آمنة، فالأمطار تتسرّب إلى الداخل وتغرق الملابس والفُرُش والأغطية. نحاول حماية عائلاتنا، لكن الواقع أقسى من قدرتنا على الاحتمال".
ويعتمد النازحون في مدينة غزة على إمكانياتهم المحدودة جدًا لمواجهة البرد والتدفئة، فيما يأتي الشتاء ليضاعف من معاناتهم ويضيف عبئًا جديدًا على كاهلهم المنهك.
ومع تكرار المنخفضات الجوية، بات الخوف والدعاء السلاح الوحيد لهؤلاء الأسر في مواجهة قسوة الطقس، في ظل غياب أي حلول دائمة أو إجراءات إنقاذ حقيقية.
وفي خضم هذا الواقع المأساوي، يظل الأمل ضعيفًا، ويغدو الدعاء الملاذ الأخير للنازحين في غزة، الذين يرفعون صوتهم يوميًا مطالبين المجتمع الدولي بتدخل عاجل يضمن لهم الحد الأدنى من مقومات الحياة والأمان.