بين جدران متصدعة تتدلى على جوانبها أعمدة خرسانية بدت كأضلاع مكسورة، تبقت بعدما نهش القصف الإسرائيلي العنيف أحد الأبراج المرتفعة في مدينة غزة، وجد مواطنون دمرت حرب الإبادة الإسرائيلية منازلهم وأحيائهم السكنية فرصتهم الأخيرة لإيواء عائلاتهم.
في حي الرمال، أحد أكثر أحياء مدينة غزة شهرة، كان برج شوا وحصري في شارع الوحدة، شاهد على حياة تنبض بحركة الناس والمركبات والأضواء الملونة، لكن بفعل القصف العنيف الذي تعرض له خلال الحرب، أصبحت أروقته عارية بلا جدران، ونصف وحداته السكنية مدمرة بالكامل، فيما صار ما تبقى من شقق ورغم افتقادها أدنى مقومات الحياة؛ ملاذًا لعشرات العائلات المدمرة منازلهم.
في الطابق الأرضي المنهار، تتخذ ابتسام صالح من سقفه المائل وجدرانه المحترقة مكانًا لتثبيت خيمة مصنوعة من النايلون، تؤوي تحت سقفها البارد أفراد عائلتها، من بينهم والدها المقعد طارق صالح (46 عامًا). كانت هذه العائلة قبل حرب الإبادة تملك منزلاً كاملاً في مخيم جباليا، شمالي القطاع، لكن جيش الاحتلال دمره وغير معالم منطقتهم السكنية.
معاناة ابتسام وعائلتها لم تبدأ منذ وصولها إلى مكان النزوح الأخير قبل بضعة أشهر، بل امتدت منذ بداية حرب الإبادة، حيث تنقلت بين مدن ومحافظات القطاع حتى انتهى بها المطاف أسفل برج شوا وحصري. هناك يتجلى الدمار والخراب نهارًا، ويتحول إلى مكان موحش ومخيف ليلاً.
قالت ابتسام لـ "فلسطين أون لاين": "ليس أمامنا سوى البقاء بين جدران متشققة وسقف تظهر فيه فجوات يتسرب منها الضوء نهارًا ومياه الأمطار ليلاً، فليس لدينا أي بدائل."
"كنا نظن أن القصف سيدمر بيتنا فقط، ولم نتوقع أن ينتهي بنا الحال هنا. كل ليلة أخشى أن ينهار السقف فوق رؤوسنا، لكن ليس لدينا مكان آخر نذهب إليه." أضافت الشابة البالغة (21 عامًا) وهي تشير بيديها إلى الشقوق والتصدعات.
تروي ابتسام أيضًا؛ في الأسابيع الأخيرة لحرب الإبادة الجماعية، قصفت طائرة حربية الطابق الأخير من البرج –يبلغ ارتفاعه 12 طابقًا- ما أدى إلى تطاير الركام وتساقطه على خيام الإيواء القريبة. إحدى قطع الركام الكبيرة سقطت على خيمة تسببت بارتقاء زوج شقيقتي مصطفى عبد ربه (35 عامًا).
وقبل الإبادة التي بدأها جيش الاحتلال في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، واستمرت سنتيْن، احتضن برج شوا وحصري على مدار عشرات الأعوام مقار مؤسسات عديدة متخصصة في مجال الإعلام، لكن صواريخ وقنابل الاحتلال نهشت ذلك المبنى المرتفع وجعلته أجزاء منه آيلة للسقوط.
في الطابق الثاني يقيم عبد الله عبد ربه (58 عامًا)، الذي فقد منزل العائلة المكون من 3 طوابق في منطقة عزبة عبد ربه، شرق مخيم جباليا.
تعيش العائلة المكونة من 15 فردًا بينهم نساء وأطفال على فراش قديم عثروا عليه بين الركام، أما التدفئة فلا وجود لها بينما يهاجمهم البرد بقسوة.
ومع أول موجة برد شهدها خريف 2025، لم يجد عبد ربه وسيلة لتدفئة الأطفال والنساء سوى جمع قطع صغيرة من الخشب ليشعل بها موقدًا صغيرًا، لكن دخان النار كان يملأ المكان الخانق ويدفع الأطفال للسعال.
أما أرضية الغرفة ذات الجدران المدمرة قد غرقت بمياه الأمطار، وقد عمل عبد ربه على إغلاقها بقطع من القماش والبطانيات يخترقها صفير الرياح ولا تحجب حبات المطر.
قال عبد ربه لـ "فلسطين أون لاين": "حياتنا هنا في غاية الصعوبة والقسوة، لا يوجد حمامات، ومياه الصرف الصحي تتسرب من الطوابق المرتفعة وتملاً محيط المكان. صرنا نعيش كابوسًا لا ينتهي."
وأضاف: "نتابع أطفالنا على مدار الساعة، فأي حركة بالخطأ قد تتسبب بوفاة أحدهم، التشققات تملاً المكان، لا شيء يفصل بيننا وبين الأجزاء المدمرة، ونسمع أصوات التشققات في الأعمدة والأسقف مع كل هبوب للرياح."
"نحن لا نريد البقاء في هذا المكان، لكن ليس لدينا أي خيارات أخرى، وإن غادرنا سيأتي نازحين آخرين لإيواء عائلاتهم." تابع عبد ربه وصوته مليء باليأس.
في البرج المدمر ذاته، شكل الدرج ورغم التصدعات والشقوق التي تملئه، وسيلة لتنقل العائلات النازحة بين الطوابق السفلية والمرتفعة. عندما يصعد عبره النازحون، يتحركون بحذر شديد فالجدران المدمرة تركت ورائها فراغات خرسانية قاتلة، ممكن أن تتسبب في أي لحظة بسقوط أحدهم وارتقائه.
على مدخل البرج، تتكدس الخيام فيما تعبق روائح النفايات أجواء المكان، وسط بيئة غير صحية يعيش فيها النازحون بعدما أفقدتهم الحرب بيوتًا كانت يومًا ما ملاذًا آمنًا لعائلاتهم ووطنًا صغيرًا بالنسبة لهم.