كانت أصوات أناشيد الفرح تتردد في أحياء مدينة غزة المثقلة بالحزن، صبيحة يوم الخميس، يوم إعلان نتائج الثانوية العامة.
دقّات طبول فرق "فدعوس" ومزاميرها كانت تخترق الأزقة والبيوت، بحثًا عن الناجحين، وانتزاعًا للحظة فرح صغيرة من قلوب أثقلتها شهور الحرب والفقد والنزوح.
بين الركام والبيوت المهدّمة ومراكز الإيواء، تشبّث الناس بأي لحظة سعادة، وكأن النجاح في هذا العام الاستثنائي إعلان حياة في وجه الخراب.
ورغم أن الحرب حرمت آلاف الطلبة من عامهم الدراسي الطبيعي، فإن كثيرين تمسّكوا بالأمل ونجحوا في أن يصنعوا لأنفسهم قصة تستحق أن تُروى، وسط كل ما يسكن غزة من وجع.
يجلس صلاح بارود (مواليد 2006) في زاوية صغيرة من منزله المتواضع، علامات الإرهاق ما تزال على وجهه، لكن في عينيه بريق راحة وانتصار على الخوف. وعندما سُئل عن اللحظة الأولى التي عرف فيها نتيجته، ابتسم ابتسامة خفيفة وقال: "كنت أعرف أني بذلت كل ما أستطيع، وتوقعت أحصل على معدل 85% في الفرع العلمي."
تتدخل والدته، ودموعها تسبق كلماتها: "فرحنا… بس الفرحة ناقصة. عمه اللي راح كان أول واحد بيستنّى يسمع نتيجته."
يحكي صلاح عن أصعب ما واجهه: شبكة الإنترنت الميتة معظم الوقت. يشير بيده نحو الشارع قائلًا: "كنت أمشي مسافة طويلة كل يوم… لأوصل لمكان يلقط النت. أقعد على الرصيف، أمسك الجوال وأحلّ نماذج الامتحانات. مرات كنت أرجع بالليل وأنا خايف من القصف."
ورغم كل ذلك، لم يفكر يومًا في الانسحاب أو التأجيل: "كنت أحس إنه إذا ضيّعت هالسنة… الحرب بتكون أخدت مني أكثر من اللازم."
وعن طموحه يرفع رأسه بثبات: "بدي أكمل طب… أو صيدلة… أو تمريض. بدي أكمل طريق والدي وأعمامي."
والده يجلس إلى جواره، يضع يده على كتفه بفخر ويقول: "صلاح تعب. الحرب ما خلتش يوم نرتاح، لا نوم ولا دراسة. لكن هو ما استسلم."
يحكي صلاح عن ليالٍ طويلة بلا كهرباء: "كنت أمسك الكتاب على ضوء ليد خافت. مرات القصف كان يرعبني… بس كنت أرجع أحط السماعات وأكمل."
ثم يضيف بصوت خافت: "بدي أطلع من غزة بمنحة… وأرجع أخدم الناس. حلمي مش بسيط… بس بدّي أحققه."
يقف محمد السوافيري (مواليد 2007) والحاصل على 77.4% في الفرع الأدبي أمام بيته المهدّم، موزّعًا الابتسامات على المهنئين، بينما تتجه نظراته بين والدته التي لا تتوقف دموعها، وبين البيت الذي لم يبق منه إلا الجدران.
يقول بصوت متقطع: "نجحت… بس مش قادر أفرح بالكامل. سنتين وأنا أفقد ناس… واحد ورا الثاني."
تتحدث والدته من خلفه بصوت متماسك رغم الألم: "استشهد أخوه… وزوجا أختيه… وبنت أخته الصغيرة… وأصيب أخوه الثاني. وكل هذا وهو بيحاول يدرس."
يفسر محمد كيف كان يساعد والديه في بيع المواد الغذائية: "الصبح أشتغل… وبالليل أدرس. ما كان عندي كتب، راحت تحت الركام. بس كنت أصوّر صفحات من عند الطلاب اللي كنت بأخذ معهم دروس خصوصية… وأحاول ألحق."
وعن لحظة إعلان النتيجة يقول وهو يمسح عينيه: "حسّيت كأني رجعت أتنفّس. هذا النجاح مش إلي لحالي… لكل اللي فقدتهم."
وعلى أنقاض منزله المدمر، وفي المكان نفسه الذي ودّع فيه والده الشهيد، احتفل فهمي أبو مصطفى بنجاحه في الثانوية العامة، بعد ظهور النتائج للمرة الثانية منذ وقف إطلاق النار.
يقول فهمي: "حصلت على معدل 94.6%. ما كنت أتوقع أبدًا هيك نتيجة في ظل اللي مرّينا فيه."
ويشير إلى إصراره على الاحتفال فوق المنزل الذي استشهد فيه والده وابنته وابنه الآخر بعد قصف مباشر استهدفهم، فيما أصيب هو أيضًا.
ويؤكد: "رغم إصابتي، كان التفوق هدف كبير. كنت كل ما أهمّ أسكّر الكتاب… أتذكر وصية والدي الشهيد اللي كان بدو يشوفنا متفوقين."
ورغم الظروف الاستثنائية، شهد عام 2025 مشاركة غير مسبوقة لطلبة غزة.
فبحسب تقارير وزارة التربية والتعليم وجهات دولية مثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP): أكمل الامتحانات نحو 27,000 طالب وطالبة داخل قطاع غزة، بينما اكمل حوالي 2,000 طالب من غزة أدّوا امتحاناتهم من خارج القطاع (في الضفة أو الشتات).
الدفعة الأصلية كانت تقارب 39,000 طالبًا، لكن الحرب منعت قرابة النصف من التقديم بسبب الاستشهاد أو الإصابة أو النزوح إلى مناطق بلا إمكانيات تعليمية.
أما نسب النجاح فكانت لافتة رغم الدمار: 68% في الفرع العلمي، و71% في الفرع الأدبي، ومعدلات النجاح العامة تراوحت بين 65-70% (مقارنة بـ62.5% في الضفة)، ,هذه الأرقام ليست إحصاءات فقط؛ بل شهادة على كفاح يومي.
فمن أصل 41,000 طالب كان يُفترض أن يتقدموا للامتحانات يوميًا، أكمل 27,000 منهم الامتحانات عبر ثلاث مراحل إلكترونية، باستخدام تطبيق هاتفي بسيط، وفي ظل انقطاع تام للكهرباء.

