على تلة من الأنقاض بمدينة غزة، يصعد شابان بسلم خشبي إلى خيمة صغيرة من الزينكو البالي والشوادر المهترئة، وعلى سقفها يرفرف علم فلسطين. ورغم أن عمارة العائلة التي بنيت فيها أحلامهما أصبحت رمادا، فإنهما يصنعان مظاهر حياة في هذا المكان الذي ولدا وكبرا به.
لؤي وبراء النمر شقيقان تجمعهما ذكرياتهما في حارتهما الواقعة بشارع الجلاء شمال المدينة، ولا يستغنيان عنها رغم الدمار الهائل على مد البصر هناك، ويتشاركان في هذا الحال مع الأهالي في المنطقة.
يوقد لؤي (28 عاما) الحطب لغلي بعض المياه أمام الخيمة، قائلا لصحيفة "فلسطين": هنا، أجبر الاحتلال المواطنين على النزوح خلال اجتياحه الأخير، الذي بدأ في أغسطس/آب. وكان ذلك ضمن أوامر تشريد قسري احتلالية شملت محافظتي غزة وشمال قطاع غزة.
كانت هذه المرة الأولى التي يخوض فيها الشابان وعائلتهما غمار النزوح القسري إلى جنوب القطاع الذي زعم الاحتلال أنه "منطقة آمنة"، لكنه استهدف المدنيين هناك أيضا.
"قبل هيك، ضلينا بمدينة غزة رغم أنه عشنا ثلاث مجاعات وأكلنا أكل الدواب، وكان قرارنا البقاء حتى لو رح نستشهد في الدار كلنا... وفي ديسمبر/كانون الأول ٢٠٢٤ اقتحم جيش الاحتلال منطقة سكننا وحاصرنا"، يضيف لؤي.
لكنه يصف الوضع في العدوان البري الأخير بأنه كان "أكثر صعوبة"، قائلا: "أحرق الاحتلال محلي التجاري الذي أبيع فيه التوابل بجانب المنزل في آخر شارع الجلاء، وأرسل بالقرب منا عربات مفخخة، عدا عن مسيرات الكواد كابتر".
ويشير إلى أن والده أصيب خلال العدوان البري الأخير، أمام منزله، واستشهد اثنان من جيرانه.
وخلال حرب الإبادة التي بدأها الاحتلال في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، استشهد نجل لؤي (ثلاثة أعوام) نتيجة المجاعة، كما استشهدت عمته وأولادها وزوجها وأحفادها، وابن عمه، واثنان من أعمامه.
زواج في خيمة
بعد أن ذهب بنظره بعيدا، يتنهد لؤي كأنما يلفظ سحابة سوداء من داخله، قائلا: إنه شيد وأخوه براء، حديثا، شقتين في عمارة العائلة، لكن أيا منهما لم يهنأ بالسكن في شقته.
وكان براء (22 عاما) الذي يعمل مهندسا في مجال الإنترنت، يأمل في الزواج من خطيبته والسكن في الشقة، لكنه يجد نفسه مضطرا الآن لإتمام الزفاف والعيش في خيمة.
يقول: عندما أجبرنا على النزوح، كنا نعتقد أننا سنعود بعد أيام ونجد منزلنا قائما، لكننا عدنا بعد 20 يوما، بموجب اتفاق وقف حرب الإبادة (دخل حيز التنفيذ في 10 أكتوبر/تشرين الأول) ووجدناه أثرا بعد عين.
وكانت عمارة العائلة مكونة من ستة طوابق، وتؤوي 12 عائلة يبلغ عدد أفرادها 200، باتوا الآن بلا مأوى.
يصف لؤي النزوح بأنه "مذلة"، قائلا: إنه غير مستعد للذهاب إلى أي مكان سوى منطقة سكنه بمدينة غزة. ويضيف: صحيح أن الجنوب جزء من القطاع لكنه يمثل "غربة بالنسبة لي".
ورغم قلة الإمكانات، وافتقارهما إلى الشوادر اللازمة لمنع انهمار المطر عليهما، عاد الشابان إلى حارتهما، وأقاما خيمة يدوية من الخشب، المسقوف بألواح ضعيفة من الزينكو، لكنهما يواجهان تحديات أخرى على صعيد القدرة على الحركة بين الأنقاض في المنطقة، وشح المياه، وخطورة العيش فوق الردم وفي بقايا المنازل.
ويطالب الشقيقان، الوسطاء في اتفاق وقف حرب الإبادة (مصر وقطر وتركيا والولايات المتحدة)، بالضغط على الاحتلال للإسراع في عملية إعادة إعمار غزة، واتخاذ خطوة مبدئية متمثلة بإقامة مخيمات للنازحين خصوصا المشردين على شاطئ البحر، مع اقتراب هطول الأمطار.
ويشير لؤي إلى أن الاحتلال يعرقل إعادة الإعمار ولو وجد فرصة فسيتنصل من الاتفاق، وسيعود لاجتياح غزة لأن هدفه التدمير والتهجير.
وبين الركام والخيمة المهترئة، يظل لؤي وبراء صامدين في حارتهما، بمواجهة المآسي. يقولان بصوت يحمل الألم والأمل معا: "رجعنا هنا نعمل خيمة على الردم، لأنه بدنا نرجع لحارتنا. ما بنسيبها أبدا. تربينا فيها سنين طويلة، ورغم كل شيء، رح نبدأ حياة جديدة".