تعيش القضية الفلسطينية لحظة مفصلية تكشف عمق التحولات الجارية في بنية النظامين الدولي والإقليمي. فالمبادرة الأمريكية الأخيرة لإنشاء ما يُسمّى بـ«مجلس السلام في غزة» ليست خطوة إنسانية أو تقنية كما يُروَّج لها، بل هي امتداد لاستراتيجية أمريكية تهدف إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي في المنطقة بما ينسجم مع منطق «إدارة الصراع» لا حله، وتفريغ القضية الفلسطينية من مضمونها السياسي، وتحويلها إلى ملف أمني–إداري خاضع لرقابة إقليمية ودولية.
من خلال تتبّع الخطاب الرسمي الأمريكي ومراجعة المشروع المقدَّم إلى مجلس الأمن، يتبيّن أن مشروع القرار الأمريكي يسعى إلى إعادة تأهيل «إسرائيل» سياسيًا على المستويين الإقليمي والدولي، عبر إعفائها من تبعات الاحتلال ومسؤولياته القانونية والأخلاقية، وإظهارها كطرفٍ شريكٍ في إعادة الإعمار والاستقرار، لا كقوة احتلال تمارس الإخضاع اليومي والإبادة الجماعية ضد شعبٍ أعزلٍ محاصر. وبذلك يتحقق أحد أهم أهداف السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط: فصل البعد الأخلاقي عن البعد السياسي في التعامل مع الكيان الصهيوني، وإعادة دمجه في منظومة الشرعية الإقليمية عبر قنوات «السلام الاقتصادي» و«التعاون الأمني».
يأتي ذلك في سياق تحويل الصراع من قضية تحرر وطني إلى مسألة إدارة محلية تحت إشراف دولي، بحيث تُختزل المطالب الفلسطينية في قضايا المعيشة والخدمات لا في تقرير المصير والسيادة. إن هذه المقاربة تكرّس ما يمكن وصفه بـ«الاستعمار الجديد بالوساطة الإقليمية»، حيث تتولّى بعض الدول العربية دور الضامن الأمني والسياسي لاستقرار غزة مقابل تسهيلات اقتصادية، في حين تغيب أي آلية حقيقية لإنهاء الاحتلال أو تمكين الفلسطينيين من ممارسة حقوقهم الوطنية.
وفي العمق، يندرج هذا التوجّه ضمن استراتيجية أوسع تسعى إلى تفعيل موجة جديدة من التطبيع "العربي الإسلامي"–الإسرائيلي، التي بدأت بوادرها في كازاخستان، وتستند إلى منطق «الأمن مقابل التنمية»، بما يعزّز الارتباط الوظيفي بين «إسرائيل» ودول الإقليم. وهكذا يُعاد إنتاج الاصطفافات القديمة بثوبٍ جديد، ويُعاد ترتيب أولويات المنطقة بحيث تصبح فلسطين بندًا ثانويًا في أجندة الأمن الإقليمي.
إن أخطر ما تحمله الخطة الأمريكية يتمثل في ما يمكن تسميته بـ«تفكيك المرجعية الفلسطينية الموحّدة»، سواء من خلال تكريس الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة، أو عبر نزع القدرة السياسية عن القيادة الفلسطينية في اتخاذ قرارات سيادية مستقلة. فالفصل الإداري بين الكيانين الجغرافيين لا يعبّر عن واقع ميداني فحسب، بل يشكّل جزءًا من رؤية استراتيجية ترمي إلى إقامة كيانين منفصلين سياسيًا ومؤسساتيًا، ما يُضعف فكرة الدولة الواحدة ويمهّد لبروز «نظام وصاية إقليمي دائم» على غزة.
تتزامن هذه التطورات مع احتمالية تراجع التضامن الدولي مع الفلسطينيين مع مرور الوقت، نتيجة اختلال موقف السلطة الفلسطينية نفسها، التي ما زالت تراهن على الوسيط الأمريكي رغم التجارب المتكررة التي أثبتت انحيازه البنيوي للكيان الصهيوني. هذا الرهان، بما يحمله من ضعفٍ في الموقف التفاوضي وفقدانٍ للثقة، ينعكس مباشرةً على علاقات فلسطين مع شركائها التقليديين في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، ويُضعف الحراك الدبلوماسي القائم على بناء جبهة دعمٍ دولي متماسكة.
من ناحيةٍ منهجية، يمكن القول إن مشروع القرار الأمريكي يعبّر عن انتقالٍ في مقاربة واشنطن للقضية الفلسطينية من سياسة «الاحتواء» إلى سياسة «إعادة الهندسة». فبدلًا من إدارة الأزمة عبر المفاوضات التقليدية، يجري الآن بناء بنية سياسية وأمنية جديدة في غزة تحت شعار «السلام والاستقرار»، لكنها في جوهرها تؤسس لمرحلةٍ من التبعية المنظمة، حيث يتحول القرار الفلسطيني إلى وظيفة ضمن شبكة مصالح إقليمية ودولية متشابكة.
أمام هذا الواقع، تبدو إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني ضرورةً وجودية لا خيارًا تكتيكيًا. فالمطلوب ليس فقط إنهاء الانقسام، بل إعادة صياغة العلاقة بين القيادة والقاعدة الشعبية على أسس المشاركة والشفافية، وتفعيل البعد الديمقراطي في تمثيل الشعب الفلسطيني داخل الأرض المحتلة وخارجها. كما يتطلّب الأمر العمل الجاد على إصلاح السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير بعد ضمّ الفصائل الأساسية المعارضة، كحركتي حماس والجهاد، إلى المنظمة، والتوافق على مشروع وطني تحرري جامع يدمج بين المقاومة بكل أشكالها والعمل السياسي. كذلك، يجب تحريك الدبلوماسية الفلسطينية نحو تعددية الأقطاب الدولية، وخاصة مع القوى الصاعدة التي تطرح بدائل سياسية واقتصادية تتيح مساحةً أكبر للاستقلالية في القرار الوطني.
في المحصّلة، ما يجري اليوم ليس مجرد مبادرةٍ دبلوماسية أمريكية، بل محاولةٌ لإعادة هندسة موقع فلسطين في النظام الإقليمي الجديد، بحيث تصبح القضية ملفًا قابلًا للإدارة لا موضوعًا للتحرر. ومن هنا، فإن الوعي بخطورة هذه المرحلة يقتضي الانتقال من ردّ الفعل السياسي إلى بناء استراتيجية تحررية متكاملة تستند إلى وحدة القرار، والتمسك بالشرعية الدولية، وتوسيع التحالفات بعيدًا عن الوصاية الأمريكية والغربية.