في مشهد يلخّص الإصرار على الحياة وسط الدمار، ابتكر صيادو قطاع غزة وسائل بدائية وغير مألوفة لممارسة مهنة أجدادهم، بعد أن دمّر جيش الاحتلال الإسرائيلي معظم مراكبهم خلال الحرب المدمّرة التي شنّها على القطاع منذ السابع من أكتوبر عام 2023.
فمع انعدام الإمكانيات وارتفاع تكاليف بناء المراكب الجديدة، لجأ عدد من الصيادين إلى تحويل الثلاجات القديمة وقطع الفلين العائمة إلى قوارب بدائية تمكّنهم من دخول البحر بحثًا عن لقمة العيش.
مغامرة الصيادين
يقول الصياد محمد أبو ريالة، الذي فقد قاربه في قصف إسرائيلي، إنه لم يجد أمامه خيارًا سوى التفكير بطريقة مختلفة ليستطيع إطعام أطفاله.
ويضيف أبو ريالة لصحيفة "فلسطين": "بعد أن دمّر الاحتلال قاربي وشباكي، خطرت لي فكرة استخدام الثلاجة كقارب، فقمت بتفريغها من الداخل واحتفظت بجوانبها المبطّنة بالفلين الذي يطفو فوق الماء. لم يكن الأمر سهلًا، لكنها الوسيلة الوحيدة المتاحة".
ورغم صعوبة العمل داخل هذه "القوارب المؤقتة"، فإنها باتت طوق نجاة للكثير من الصيادين في بحر غزة، إلا أنّ المخاطر ما زالت تلاحقهم، إذ تستمر زوارق الاحتلال في إطلاق النار واعتقال الصيادين حتى وهم على بُعد أمتار قليلة من الشاطئ.
أما الصياد محمد أبو الخير، فقد طوّر فكرة صديقه بأسلوب مختلف، ويقول: "أقوم بتثبيت الثلاجة في البحر على بُعد أمتار من الشاطئ مع غروب الشمس، وأتركها حتى الصباح، وأضع فيها بطارية صغيرة وكشافات إنارة من نوع (ليد) لتجميع الأسماك حولها".
ويتابع أبو الخير حديثه قائلًا: "في الصباح الباكر أنصب شباكي حول الثلاجة، وحين أعود لرفعها أجد الأسماك قد تجمّعت حول الضوء، فأقوم بإخراجها من الشباك عند الشاطئ، فبعضها آكله مع عائلتي، وأبيع ما تبقّى لتغطية احتياجاتنا اليومية".
لكنّ أبو الخير يؤكد لـ"فلسطين" أن هذه الرحلة اليومية محفوفة بالمخاطر، فبحرية الاحتلال لا تتوانى عن استهداف أي صياد يقترب من المياه، حتى في المناطق الساحلية القريبة.
ويقول بأسى: "نحن نحاول فقط أن نعيش، لكن رصاصهم لا يرحم، كثير من زملائنا استُشهدوا أو أُصيبوا أثناء محاولتهم الصيد لإطعام أطفالهم".
المنقذ الوحيد
من جهته، يرى الصياد محمود الهسي أن هذه المحاولات، رغم بدائيتها، تمثّل الحل الوحيد في ظل الحصار ومنع إدخال المواد الخام اللازمة لصناعة السفن.
ويقول الهسي لـ"فلسطين": "منذ أن دمّر الاحتلال قواربنا، لم نتمكن من بناء أي جديد، لأن المواد الأساسية لصناعة المراكب مثل الخشب و(الفيبر جلاس) والزيوت محظورة تمامًا. لذلك فإن فكرة الثلاجات العائمة هي المنقذ الوحيد لمن أراد الاستمرار في العمل وإطعام أطفاله".
ورغم ذلك، يعيش الهسي في خوف دائم من العودة إلى البحر، إذ إن استهداف الاحتلال لم يتوقف، وقد اعتُقل العشرات من الصيادين، فيما تكبّد آخرون خسائر فادحة في شباكهم ومعداتهم التي كلفتهم ديونًا كبيرة.
دمار شامل
من جانبه، ذكر زكريا بكر، رئيس النقابة العامة للعاملين في قطاع الصيد والإنتاج البحري، أن الاحتلال الإسرائيلي دمّر نحو 95% من ممتلكات الصيادين في قطاع غزة، بما في ذلك المراكب والمخازن وورش التصليح ومصانع الثلج وميناء غزة نفسه، الذي تم قصفه وشطر لسانه البحري إلى نصفين.
ويقول بكر لـ"فلسطين": "منذ اليوم الأول للحرب، مُنع الصيادون من دخول البحر، وتحوّل القطاع بأكمله إلى منطقة ميتة. فالاحتلال أباد قطاع الصيد بكل ما تعنيه الكلمة من معنى".
ويضيف: "كل محاولات الصيادين للعودة إلى البحر باستخدام قوارب صغيرة أو ألواح فلين أو ثلاجات، وُوجهت بإطلاق النار المباشر والاعتقال".
ووفقًا لبكر، فقد استُشهد نحو 230 صيادًا منذ اندلاع الحرب، بينهم 65 صيادًا أثناء محاولتهم دخول البحر، فيما أُصيب المئات بجراح مختلفة. كما اعتقل الاحتلال نحو 45 صيادًا وأفرج عن 38 منهم، بينما لا يزال سبعة صيادين قيد الاعتقال حتى اليوم.
قمع مستمر
حتى بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بوساطة دولية، واصل الاحتلال ممارساته ضد الصيادين.
فبحسب بكر، اعتُقل 16 صيادًا إضافيًا بعد الاتفاق ولا يزالون في سجون الاحتلال الإسرائيلي، كما تم تفجير ثلاثة قوارب بدائية الأسبوع الماضي واعتقال ثمانية صيادين آخرين خلال محاولتهم الصيد على مسافات قريبة جدًا من الشاطئ.
ويشير إلى أن نحو 400 إلى 500 صياد ما زالوا يحاولون العمل في بحر غزة اليوم، لكن إنتاجهم لا يتجاوز 2% مما كانوا يصيدونه قبل الحرب.
أما العدد الإجمالي للصيادين في القطاع، فيقدَّر بنحو 4500 صياد، معظمهم باتوا بلا عمل ولا مصدر رزق، بعد أن حوّل الاحتلال البحر الذي كان رمزًا للحياة إلى ساحة للموت والحصار.
ورغم كل ذلك، لم يستسلم الصيادون في غزة؛ فقد لجأ بعضهم إلى تحويل الألواح الفلينية العائمة، وإطارات المركبات المعبأة بالهواء، وحتى الثلاجات القديمة إلى أدوات بديلة لممارسة الصيد، في مشهد يجسّد روح التحدي الفلسطينية.
ويقول بكر في ختام حديثه: "ما يقوم به الصيادون اليوم ليس مجرد بحث عن رزق، بل هو معركة من أجل البقاء. هؤلاء الرجال يصنعون الحياة من لا شيء، ويثبتون للعالم أن غزة، رغم الجراح، لا تموت".