أبت آية أن تبقى مجزرة عائلتها مدفونة بين أخبارٍ متلاحقة سرعان ما طواها النسيان. فالعالم شاهد في 29 أكتوبر/ تشرين أول 2024 خبر قصف الاحتلال لعائلة "أبو نصر"، الذي أدى لاستشهاد نحو 150 فردًا جلّهم من الأطفال والنساء، لكنها اختارت أن تروي الحكاية من قلب الألم.
خطّت تفاصيلها في كتابٍ وثّق الإبادة، وصوّر معاناة الناجين وحياة التشرد في الخيام، ومعاناة زوجات الأسرى، ليكون كتابها الذي نشرته في الذكرى الأولى للمجزرة صرخة في ضمير العالم.
بين جدران بيتها، وسط الخوف والقلق والقصف، عاشت آية أبو نصر (30 عامًا) من سكان شمال القطاع أيامًا ثقيلة من الرعب. ولم يمنعها الخطر من مرافقة والدتها لمواساة شقيقتها التي تسكن قرب مستشفى كمال عدوان بعد استشهاد نجلها، والبقاء عندها طيلة أيام العزاء، قبل أن تمتد يد الاحتلال لتطال بيت العائلة وتحوّله إلى رمادٍ وذاكرة موجعة.
وبعد انقضاء العزاء، حاولت العودة لمنزل جدها حيث يتواجد كافة أخوتها وأعمامها وأخوالها بأولادهم وزوجاتهم، لكن إطلاق النار المستمر من قبل مسيّرات الاحتلال نحو منزل شقيقتها، مصحوبًا بقذائف مدفعية، ومنشورات إخلاء للمشفى ومحيطها حال دون تمكنهم من العودة لمنزل جدها، فأجبرت هي ووالدتها وشقيقتها على النزوح نحو غرب مدينة غزة.
"كانت أمي تريد الالتفاف من شارع آخر، لكن جاءت مسيّرة (كواد كابتر) وهددنا من يحركها عبر مكبر الصوت أنه "سيقتلنا إن واصلنا التقدم"، فخرجنا مع الناس. مررنا قرب دبابات جيش الاحتلال، وتعرضنا لتفتيش وتنكيل وذل. قضينا ساعات نسير مشيًا حتى خرجنا من شمال القطاع" تروي نصر لـ "فلسطين أون لاين".
داخل خيمة نزوحها بمدينة دير البلح، تجلس آية على كرسي بلاستيكي، وفي يديها كتاب نشرته، وثقت فيه المجزرة التي تستكمل تفاصيلها الآن: "نزحنا لأحد البيوت غرب المدينة، وصلنا في قمة التعب والإرهاق، حاولنا الاتصال حينها على العائلة لنطمئن عليهم، كنا ندرك أنهم يعيشون حياة صعبة، لكن بعد مرور عدة أيام عرفنا أن الاحتلال قصف العمارة واستشهد نحو 150 فردا من العائلة جلهم من الأطفال والنساء، في تلك اللحظة كانت يتواجد نحو 200 شخص بالعمارة السكنية يوم 29 أكتوبر/ تشرين أول 2024".
استشهد بالمجزرة شقيقها محمد وزوجته وطفليه: فرِح ومنار ، وشقيقتها منار مع زوجها وأطفالها: عدنان، وعيسى ومحمد وعلا، وشقيقتها سحر وزوجها وطفليها: مصطفى وصهيب، وشقيقتها صابرين مع أطفالها: ملك، مرح، مروة، غزل، وأركان، ونجى غسان (15 سنة) ابن شقيقتها صابرين، واستشهد شقيقها مروان ونجت زوجته وأطفاله، واستشهد أطفال شقيقتها المتوفاة قبل الحرب وتدعى فاطمة وهم: حمزة ونهى ونور ومحمد وشهد والتحقوا بوالدتهم، واستشهد عمها وأولاده وزوجاتهم وأحفاده، وعمتها وأولادها وأحفادها، وأولاد خالها مع زوجاتهم وأطفالهم، لتمسح العائلة من جذورها وفروعها وأغصانها من السجل المدني.
بنظرات مليئة بالحسرة وألم الفراق، تراقب عينا "آية" أفراد العائلة الناجين الذين يتوزعون في خيام داخل مركز إيواء غرب دير البلح، لكن ذاكرتها ترحل إلا أيامها الأخيرة التي قضتها في بيت جدها، تستعيد شريط الذكريات، وتفرد قائمة الشهداء من أشقائها وأعمامها وأولادهم أمامها، تغلبها دمعة، وتتبعها دمعات، يختنق صوتها.
صورة حياة
ترحل ذاكرتها لآخر أيامٍ قضتها بمنزل جدها، تقفز أمامها صورة حياة قتلتها صواريخ الاحتلال: "رأيت الخوف في عيونهم، الألم والوجع، كانوا ينتظرون إعلان الهدنة، وعاشوا يرتقبون هذا الأمل. عشنا حياة صعبة، وبمجاعة كبيرة، كنا نأكل خبزًا بخليط من الدقيق وأعلاف الحيوانات، ونقطف نبتة "الخبيزة" من الشوارع لنأكلها، نشرب المياه المالحة لعدم توفر مياه صالحة، كانوا يخافون من البقاء فيتعرضون للقصف، ويخافون النزوح فيقتلهم الاحتلال في الطريق، شعروا بالدفء بوجود كل هذا العدد من النازحين موزعين على خمسة طوابق، اعتدنا أن يكون بيت جدي ملجأنا ومكان تجمعنا حتى في الحرب".
بالرغم من الخوف والقصف المرعب، كانت العائلة تحاول خلق أجواء، بجلوس النساء مع بعضهن، أو المشاركة في إعداد الطعام، ولعب الأطفال، وضحكاتهم وأصواتهم التي كانت تزين المنزل، ومشهد صلاة الجماعة للرجال، مشاهد لا تفارق ذاكرتها.
في الذكرى الأولى، للمجزرة لا زالت غصة الفقد تكوي قلب آية ووالدتها والناجين، لأن معظم أفراد العائلة الشهداء لا زالوا تحت الأنقاض ولم يتم انتشالهم لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة على رفاتهم، "حلمي أن يتم دفنهم، صوتي يجب أن يصل لكل مكان، تتحدث عن عائلات متفرعة من عائلة ممتدة أبيدت بالكامل. أريد أن يصل صوتي لكل العالم وأروي قصة إبادة 150 فردًا بلا ذنب!" تقول.
رحلة صعبة
لم تكن "آية" تشارك أمها حزنها حتى "لا تنبش جراحها"، فاختارت أن توثق القصة في كتاب، ونظرا لعدم امتلاكها أقلام ودفاتر، كانت شاشة هاتفها المحمول، مكانها لتفريغ حزنها الذي نزف على شكل كلمات وقصص خطتهم في مدونات، استمرت إعداده نحو تسعة أشهر، حتى ولد كتابها "نجا من مات ومات من نجا" وأبصر الحياة من رحم الإبادة، لم يكن الاسم من اختيارها، بل وجدت شهداء العائلة قد كتبوا العبارة في آخر لحظات حياتهم على إحدى الجدران، كرسالة أخيرة لهم، بقي ذلك النص والجدار، شاهدًا على المجزرة وعلى وحشية الاحتلال.
عن رحلة صعبة في إعداد كتاب في ظل حرب وتشرد وعيش داخل خيمة، تروي بصوتٍ ممزوج بين ألم وفخر: "كان وجود أبناء أخوتي الأيتام حولي دافع يعطيني القوة، للكتابة. منذ صغري امتلك موهبة الكتابة، لذلك كانت أرضية نجاح العمل جاهزة، فكتبت عن المجزرة بتفاصيلها، ويوميات عشتها، كتبت عن النزوح والمعاناة، والشوق للعائلة، مشاهد الخوف التي نعيشها بشكل يومي، العيش تحت الإبادة، فقدان الأبناء، معاناة زوجات الأسرى، حياة الخيام وأول ليلة قضيتها في الخيمة، وتفاصيل الإبادة وكلها كانت عبر قصص توزعت على 200 صفحة".
تخرجت "آية" من جامعة القدس المفتوحة وحصلت على بكالوريوس العلوم المالية والاقتصاد، كأي فتاة لديها أحلام وشغف في الحياة، حتى جاءت الحرب "وأخذت كل شيء، وجعلتني ناجية وحيدة بعدما فقدت معظم العائلة" تقول.
منذ عام تعيش آية في خيمة، جربت فيها كل أشكال المأساة في الصيف والشتاء، وفردت للخيمة مساحة كبيرة في كتابها، تصف "تستنزف الخيمة كل طاقتك، وتنحصر حياتك بمكان صغير يضم مكان الطبخ والنوم ولمعيشية، تحيط بك قطعة قماشية من كل الاتجاهات، فتتعبك نفسيا وجسديا، كل شيء فيها يتم إعداده بصعوبة، الطعام والمياه، لا تستطيع إسناد ظهرك إلى حائط، وهذا بات أمنية، نعيش نحو 12 فردا بخيمة وكلهم أيتام وناجون من المجزرة، لا يوجد لدينا ملابس وأغطية كافية، نراقب قدوم الشتاء ونخشى العيش في مأساة"، لكن الحنين يسرقها، إلى موطنها، إلى ركام بيت جدها، للعالقين أسفل أنقاضه، لشوارع شمال القطاع، وتتمنى أن تعود مع عودة الناس والحياة إليه.