قائمة الموقع

الوفرة بلا شراء.. ضعف القدرة الشرائية يخنق أسواق غزة رغم تدفق البضائع

2025-11-05T07:36:00+02:00
ضعف القدرة الشرائية في قطاع غزة
فلسطين أون لاين

على امتداد شوارع غزة المدمّرة، تقف المتاجر بأبوابها نصف المخلّعة، يعلوها الغبار وتغيب عنها الحركة. رفوف ممتلئة بالبضائع، لكنها تظل جامدة بلا مشترين.

في العيون قلق، وفي الوجوه انكسار. فهنا، في قلب المدينة التي كانت تضج بالحياة، تحولت الأسواق إلى مرايا تعكس العجز الاقتصادي واليأس الإنساني بعد عامين من الحرب والحصار والمجاعة.

تشير التقارير الدولية إلى أن نسبة البطالة في غزة بلغت 80% في أعقاب الهدنة الأخيرة، ما يعني أن ثمانية من كل عشرة أشخاص قادرين على العمل يفتقرون إلى مصدر دخل مستقر.

هذا الرقم يتجاوز 83% التي سُجلت في ذروة النزاع، ما أدى إلى ارتفاع نسبة الفقر إلى أكثر من 90%، واعتماد 95% من الأسر على المساعدات الإنسانية لتغطية احتياجاتها الأساسية.

كما انكمش الاقتصاد الغزّي بنسبة 35% في عام 2025، وتعرّضت أكثر من 85% من البنية التحتية للتدمير، لتصبح الغالبية العظمى من السكان تعيش في حالة من اليأس، حيث تتركز الأولويات اليومية على تأمين الطعام والمأوى بدلًا من الرفاهية أو التخطيط للمستقبل.

هذه المؤشرات ليست مجرد أرقام، بل قصص عائلات تكافح لشراء رغيف خبز، وأمهات يقلقن على تغذية أطفالهن في ظل ارتفاع معدلات سوء التغذية إلى مستويات قياسية.

أسواق بلا زبائن

في أسواق غزة وخان يونس ودير البلح، حيث عادت بعض المتاجر إلى فتح أبوابها بعد أشهر من الإغلاق، يعبّر التجار عن مزيج من التفاؤل الحذر والإحباط العميق.

يقول زكريا أبو كميل، تاجر سلع غذائية في سوق الصحابة شرق مدينة غزة: “البيع الآن لتصريف المخزون قبل الهبوط الإضافي في الأسعار. البضائع زادت، والتكاليف اللوجستية نزلت، لكن المشكلة مش في السلع، المشكلة إن الناس ما معها فلوس. يشترون الضروريات فقط، وغالبًا يدفعون إلكترونيًا لأنه ما فيش سيولة نقدية. الإقبال ضعيف لأن الدخل غائب تمامًا.”

وعلى مقربة منه، يجلس نعيم عطا الله، الذي يبيع الملابس منذ أكثر من عشرين عامًا، مشيرًا إلى أكوام الألبسة خلفه: "كنا نحضر لموسم الشتاء وجبنا بضائع جديدة، بس ما في حركة. زمان كنا نبيع في اليوم 100 قطعة، اليوم بالكاد نبيع خمس أو ست. الناس بتفكر في الأكل قبل اللبس، وهذا إشي ما كنا نشوفه قبل الحرب."

ويؤكد إياس صالح، تاجر لحوم ودواجن، أن "القطاع الغذائي يعتمد على انتظام الإمدادات، وأي تأخير يؤدي إلى نقص وارتفاع الأسعار، مما يثقل كاهل المستهلكين ويضعف النشاط التجاري".

أما محمود عمارة، وهو نازح من شمال غزة، فيقول: "الأسعار نزلت، لكن القدرة الشرائية تراجعت أكثر. أغلب العائلات فقدت مصدر دخلها. أولوياتنا صارت الأكل والمأوى فقط. وجود البضائع مش دليل على تحسّن، إحنا بالكاد نقدر نشتري اللي بيكفينا ليوم واحد."

هذه الأصوات تكشف واقعًا إنسانيًا مريرًا: تجار خسروا مخزوناتهم وأرصدتهم خلال الحرب، واليوم يواجهون سوقًا مشبعة بالبضائع لكنها خالية من المشترين، ما يهدد بإفلاس المزيد من المتاجر الصغيرة، ويزيد معاناة العائلات التي كانت تعتمد عليها في فرص العمل المؤقتة.

تحليل اقتصادي

يؤكد المحلل الاقتصادي أحمد أبو قمر أن القدرة الشرائية في غزة لا ترتبط بكثرة الأصناف أو الشاحنات المتدفقة، بل بتحسن المؤشرات الاقتصادية الأساسية مثل انخفاض البطالة والفقر.

ويقول أبو قمر: "القدرة الشرائية منوطة بتحسن المؤشرات الاقتصادية في القطاع، مثل نسب الفقر والبطالة. والمعروف أن نسبة البطالة تعدّت 83%، أي أن من كل 100 معيل لأسرة في غزة، 17 فقط يعملون، مما يرفع نسبة الفقر إلى أكثر من 90%، ويجعل 95% من الأسر تعتمد على المساعدات".

ويضيف مشددًا على الجانب النفسي: "ضعف القدرة الشرائية، إلى جانب الخوف من تجدد الحرب، يؤثران على سلوك المستهلكين ويمنعانهم من الشراء أو التخزين. حتى لو توقفت الحرب، يبقى العامل النفسي قائمًا؛ فالناس تخشى عودة النزاع، مما يدفعها إلى حاجز نفسي بعد عامين من عدم اليقين. هذا يمنع الإقبال، رغم أن من لديه بعض المال قد يسارع للشراء خوفًا من ارتفاع الأسعار أو نقصان البضائع."

أما عن تغيّر الأولويات، فيوضح: "الحرب غيّرت أولويات المواطنين من الرفاهية إلى الضروريات مثل المأوى والغذاء. الملابس أصبحت أساسية الآن، خاصة مع اقتراب الشتاء والاعتماد على الخيام. في السابق كان المواطن يحلم بشراء شقة أو سيارة، لكنه اليوم يفكر فقط في قوت يومه، إذ يعتمد كليًا على المساعدات، وإذا انقطعت تتكشف الأسرة اقتصاديًا."

وفيما يتعلق بتوزيع المساعدات، ينتقد أبو قمر الشحّ والتواطؤ الدولي: "الإحصائيات صادمة؛ يدخل 145 شاحنة يوميًا من أصل 600 متفق عليها في البروتوكول الإنساني، وغالبًا ما تكون 100-120 شاحنة مساعدات فقط، أي 15% من المتفق عليه. هذه الشاحنات تركز على الأرز والعدس والمعكرونة، في سياسة إغراق متعمّدة، بينما يحتاج المواطنون إلى بروتينات مثل اللحوم والبيض والفواكه والخضروات، وحتى الملابس والخيام. هذا الشح يقلل من الإقبال على الأسواق، لأن المساعدات لا تغطي الاحتياجات الكاملة، ومن يملك مالًا يفضّل شراء الغائب منها، لكن ضعف الدخل يمنع الجميع."

ويختتم قائلاً: "انتعاش الأسواق يعتمد على تحسين الدخل وفرص العمل، وانخفاض البطالة. فكل تحسن في القطاعات الصناعية والزراعية والخدمية ينعكس مباشرة على القدرة الشرائية، ويحرك عجلة الاقتصاد في غزة."

رغم الإيجابيات كـ انخفاض الأسعار وتدفق المساعدات، يظل ضعف القدرة الشرائية في غزة قنبلة موقوتة تهدد الاستقرار الاجتماعي والإنساني.

قصص التجار مثل أبو كميل، والمواطنين مثل عمارة، تذكّر بأن الاقتصاد ليس أرقامًا، بل حياة أشخاص يحلمون بعودة الطبيعي.

وكما يؤكد أبو قمر، لا انتعاش حقيقي دون رفع الحصار وإعادة بناء الاقتصاد، فتبقى الأسواق شاهدًا صامتًا على معاناة مستمرة، يتردد صدى الخوف والحرمان في كل زاوية خالية من المشترين.

اخبار ذات صلة