مع توقف حرب الإبادة الاسرائيلية في قطاع غزة، بدأت تطفو على السطح قصص ومعاناة جنود وضباط في جيش الاحتلال، ممن عادوا من خطوط المواجهة وهم يجرون أثقالاً نفسية عميقة، وصلت إلى حد الانتحار أو الوقوع تحت صدمات عصبية مزمنة.
ورغم محاولات المؤسسة العسكرية الإسرائيلية الإبقاء على هذه الحالات طي الكتمان، تكشف الشهادات الفردية والتسريبات الإعلامية حجم أزمة تمتد من القواعد الميدانية إلى المستويات القيادية العليا، ما يعكس تفككًا متسارعًا في البنية المعنوية للجيش الذي طالما قدم نفسه بوصفه "الجيش الأقوى في المنطقة".
فقد نشرت صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية شهادة الجندي والممرض في جيش الاحتلال "يسرائيل حياة"، الذي شارك في القتال داخل غزة، حيث قال للصحيفة: "أحلم أن أتلقى رصاصة بين عيني. أنا جثة تمشي على قدمين".
وشارك الجندي أخيراً في جلسة أمام نواب "الكنيست" وأخذ يصرخ: "هل تعرفون كيف يكون الشعور عندما ترفع جثث أصدقائك؟ كلما جلست، أرى الجثث، أرى أصدقائي يتفجرون أمام عيني. أحاول أن أقتل نفسي كل يوم. وصف لي طبيب نفسي 15 قرصا في اليوم، جرعة تكفي لتنويم حصان. عالجوني أرجوكم".
وفي السياق نفسه، كشفت صحيفة "هآرتس" العبرية عن انتحار ضابط رفيع في "سلاح الجو" يُعد من أقدم مشغّلي الطائرات المسيّرة بجيش الاحتلال، بعد معاناة طويلة من صدمات نفسية ناجمة عن مشاهد القصف والدمار خلال الحرب في غزة. ونقلت الصحيفة عن أحد أصدقائه قوله إن الضابط الذي حظرت الرقابة العسكرية نشر اسمه صرح قبل انتحاره: "يجب إيقاف الحرب، فلتداعياتها أبعاد لا نفهمها بعد".
كما نقلت "لوفيغارو" شهادة جندي آخر يدعى "يؤاف" (25 عامًا)، يعاني نوبات هلع حادة، ويلقي باللوم على رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، قائلًا: "نتنياهو جعل (إسرائيل) تبدو كالشيطان أمام العالم، فقد أطال أمد هذا الصراع ليبقى في السلطة".
ووفقاً لمعطيات كشفت عنها وسائل إعلام إسرائيلية، فإن أكثر من 10 آلاف جندي لا يزالون يُعالجون من أزمات نفسية، في حين تمّ الاعتراف بـ3769 جندياً فقط ممّن "يتأقلمون مع اضطراب ما بعد الصدمة"، ويتلقّون علاجاً متخصّصاً.
وكانت كشفت "هيئة البث العبرية"، نهاية الأسبوع الماضي، عن تسجيل 279 محاولة انتحار في صفوف الجيش خلال 18 شهراً، متحدّثةً عن مقتل 36 عسكرياً انتحاراً خلال الفترة نفسها. واستندت هذه المعلومات إلى تقرير جديد لـ"مركز البحوث والمعلومات في الكنيست"، بيّن أن جمع البيانات المنظّمة عن محاولات الانتحار في الجيش، بدأ عام 2024.
كذلك، عرض بيانات منذ عام 2017، أظهرت أن 124 جنديّاً توفوا منتحرين، حتى تموز 2025، 68% منهم في الخدمة الإلزامية، و21% في الاحتياط النشط، و11% في الخدمة الدائمة. وأشار التقرير إلى ارتفاع ملحوظ في حالات الانتحار بين مجندي الاحتياط منذ عام 2023، رابطاً هذا الارتفاع بزيادة عدد المجنّدين النشطين منذ اندلاع حرب غزة.
امتداد الصدمة إلى الرتب العليا
الخبير العسكري والاستراتيجي العقيد متقاعد نضال أبو زيد يرى أن هذه الظاهرة كانت متوقعة، موضحًا أن اضطراب ما بعد الصدمة لا يظهر خلال القتال، بل يتجلى عادة بعد توقف العمليات.
وقال أبو زيد لصحيفة "فلسطين": "مرحلة ما بعد الحرب هي الأشد على الجنود الإسرائيليين. فهم يواجهون مشاهد القتل التي شاركوا فيها دون وجود سياق قتالي يبررها، ما يولد ما يعرف بـ(هستيريا الحرب)".
وأشار إلى حادثة اختفاء المدعية العسكرية في جيش الاحتلال يفعات تومير يروشلمي قبل العثور عليها، مع وجود رسالة قريبة من كونها رسالة انتحار، قائلاً إن ذلك "يؤكد أن الانهيار النفسي وصل إلى أعلى مستويات المؤسسة العسكرية".
وتوقع أبو زيد أن يترك هذا الانهيار النفسي أثرًا مباشرًا على جاهزية جيش الاحتلال قائلاً: "الاضطرابات النفسية داخل الجيوش أخطر من الإصابات الجسدية، لأنها تؤثر على الروح القتالية، وعلى جاهزية قوات الاحتياط، وتنعكس على ثقة الجنود بقيادتهم وبمبررات الحرب نفسها".
وأضاف أن ما تشهده (إسرائيل) اليوم هو بداية موجة أوسع من الاضطرابات النفسية ستظهر بشكل متزايد خلال الأسابيع والأشهر المقبلة.
تعتيم رسمي
من جانبه، يؤكد الخبير في الشأن الإسرائيلي إسماعيل مسلماني أن الاحتلال يمارس تعتيماً واسعاً على حجم الانهيارات النفسية داخل الجيش، ليس فقط لأسباب عسكرية، بل بالدرجة الأولى لحسابات سياسية واجتماعية حساسة.
ويقول مسلماني لصحيفة فلسطين: "هناك تعتيم عسكري وأمني وسياسي حول هذه الظاهرة، لأن الكشف عنها بشكل كامل سيُحدث صدمة داخل المجتمع الإسرائيلي، وسيؤثر على ثقة الجمهور بالمؤسسة العسكرية، وكذلك على استعداد الجنود والاحتياط للالتحاق بالخدمة".
ويضيف أن هذه الحرب تختلف عن جميع الحروب التي خاضتها (إسرائيل) منذ عام 1948، مشيرًا إلى أنها المرة الأولى التي يواجه فيها الجيش حربًا متواصلة لعامين كاملين دون توقف، وهو ما لم يعتده، إذ أن البقاء في غزة لفترات طويلة، داخل بيئة قتالية معقدة، وفي حالة ترقب دائم لعبوة أو رصاصة أو كمين، يخلق ضغطًا نفسيًا هائلًا لا يستطيع الجندي الإسرائيلي احتماله".
ويشير إلى تضارب الأرقام المتعلقة بالخسائر البشرية والإصابات النفسية، إذ أن هناك تقديرات تشير إلى وصول عدد قتلى الجيش إلى نحو 1900 منذ السابع من أكتوبر، بينما أعداد المصابين نفسياً تتراوح بين 26 ألفًا وفق "يديعوت أحرونوت"، في حين تتحدث "هآرتس" عن أرقام أكبر من ذلك، وهو ما يعكس وجود إخفاء مقصود للحقائق.
ويؤكد مسلماني أن هذا "ما يجري الآن من مفاوضات وقف لإطلاق النار ليس قرارًا سياسيًا فقط، بل يعكس حقيقة واضحة بأن الجيش غير قادر ميدانيًا على الاستمرار، وغير مهيأ لحروب المدن والعصابات التي تخوضها المقاومة".
ويشير إلى "الحديث المتزايد داخل (إسرائيل) حول ضرورة إعادة تأهيل الجيش، وإعادة صياغة قانون التجنيد، نتيجة الهشاشة النفسية والانهيارات المتكررة حتى داخل المعسكرات نفسها، حيث شهدت وحدات حالات إطلاق نار تحت تأثير الهلع والكوابيس".