مع دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في العاشر من أكتوبر، اتجهت الأنظار في غزة إلى مجموعات عملاء الاحتلال التي ظهرت فجأة في مناطق يسيطر عليها جيش الاحتلال الإسرائيلي، تتحرك تحت رعايته ودعمه، وتفرض حضورها المرتبك بقوة السلاح والنفوذ.
هذه المجموعات لا تعمل في فراغ، بل تمثل امتدادا ميدانيا لمخطط الاحتلال الساعي لتثبيت سيطرته بوسائل محلية في قطاع غزة. فهي تتغلغل في الفراغ الأمني، في محاولة لترسيخ وجود الاحتلال عبر أدوات فلسطينية الواجهة. فما الأسباب التي دفعت إلى تشكيلها؟ ومن المستفيد من بقائها في هذا التوقيت الدقيق؟
أما المشهد في الميدان، فيرسم صورة أكثر قتامة. بين الأزقة التي هجرتها العائلات تتحرك تلك العصابات تبحث عن غنيمة في مدينة أنهكتها الحرب، تجمع المعلومات، وتتحكم بالمساعدات، وتحاول بسط نفوذها على ما تبقى من الحياة اليومية، لتضيف إلى جراح غزة جرحا جديدا من الداخل.
جذور قديمة... من "فصائل السلام" إلى مليشيات اليوم
هذه الظاهرة ليست غريبة عن التاريخ الفلسطيني، ففي منتصف عام 1938، وأثناء الثورة الفلسطينية الكبرى ضد الاحتلال البريطاني، ظهرت ما عرف بـ"فصائل السلام" وهي تشكيلات فلسطينية مسلحة أنشأتها عناصر فلسطينية بدعم بريطاني لملاحقة الثوار وقمع الثورة. وقد ضمت تلك الفصائل خصوم الثورة والمستفيدين من الاحتلال البريطاني، ومنحت المال والسلاح مقابل ملاحقة أبناء وطنها.
اليوم، وبعد قرابة قرن من الزمان، يعيد الاحتلال الإسرائيلي إنتاج التجربة نفسها في غزة، بتبديل الأسماء وتغيير الرايات فقط، فيما تبقى الفكرة واحدة، "محاربة المقاومة بسلاح فلسطيني وبأيد فلسطينية".
سمات جماعات في الظل
تقول الدكتورة بلسم الجديلي، الخبيرة في الشؤون النفسية والاجتماعية، إن المجموعات التي ظهرت مؤخرا في شرق وشمال قطاع غزة هي "نتاج ظرف مركب" يتجاوز العوامل العسكرية. فهي كما تصف صغيرة الحجم، تتحرك في مناطق مهدمة أو شبه منزوعة السيطرة، وتعمل ضمن تنسيق مع الاحتلال أو بوساطة أطراف محلية.
وترى الجديلي أن " المشكلة ليست فقط في التعاون مع الاحتلال، بل في التحول النفسي الذي يجعل بعض الأفراد يرون في العدو ملاذا من الخوف أو الجوع".
دوافع متشابكة... المال أولها
تشير الجديلي لصحيفة "فلسطين"، إلى أن دوافع المنتسبين لهذه المجموعات تتنوع بين الحاجة المالية، والإكراه، والرغبة في الانتقام. فهناك من الأفراد، "انجرفوا تحت ضغط البقاء"، وهناك من تحركه دوافع ثأرية أو خصومات محلية، وآخرون أجبروا على التعاون تحت التهديد أو الحاجة للعلاج أو المساعدة.
هذه الدوافع المتداخلة تجعل الظاهرة معقدة، لا يمكن تفسيرها فقط بالخيانة، بل أيضا بانهيار منظومة الأمان الإنساني والاجتماعي في الحرب.
وترى أن الاحتلال لم ينشئ هذه الجماعات من الصفر، بل استغل حالة الفوضى التي خلفتها الحرب. " حين تتراجع المؤسسات الأمنية وتنهار الخدمات، تظهر قوى صغيرة تبحث عن نفوذ، والاحتلال وجد في ذلك فرصة ذهبية لإعادة إنتاج السيطرة بطريقة غير مباشرة ".
وتحذر من أن استمرار هذه المجموعات بعد الحرب قد يتحول إلى "تهديد وجودي" للمجتمع الغزي، لأنها تمثل نموذجا مضادا لفكرة الدولة والانضباط، وتفتح الباب أمام فوضى داخلية قد تستمر لسنوات.
المليشيات أداة فشل الاحتلال
من جانبه، يوضح الخبير العسكري والاستراتيجي نضال أبو زيد أن هذه المجموعات، تصنف عسكريا كمليشيات مدعومة من الاحتلال هدفها إشاعة الفوضى والانقلاب على المقاومة. ويؤكد أن المقاومة نجحت، عبر عمليات أمنية دقيقة، في تفكيك معظمها خلال أسابيع قليلة، ما يعني – بحسب تعبيره – "فشال خطة الاحتلال لتفجير الساحة الداخلية من الداخل بعد عجزه عن حسمها عسكريا".
ويضيف أبو زيد لـ"فلسطين"، أن الرابط المشترك بين عناصر هذه الجماعات هو "الخلفية الجرمية والسلوك المنفعي"، إذ إن كثيرين منهم تورطوا سابقا في قضايا جنائية، ما جعلهم بيئة جاهزة للتجنيد مقابل المال والسلاح.
ويتابع، "الاحتلال وفر لهم الغطاء والحماية وفتح أمامهم قنوات التمويل، في محاولة لتشكيل سلطة بديلة داخل القطاع".
فتنة داخلية وخطر طويل الأمد
ويعتبر أبو زيد أن أخطر ما تمثله هذه الجماعات هو "زرع الفتنة داخل الحاضنة الشعبية للمقاومة"، وإشاعة فوضى أمنية تمهد لتدخل الاحتلال عند الحاجة، حين ينجح العدو في جعل الفلسطينيين يتوجسون من بعضهم، يكون قد حقق نصرا استراتيجيا بلا رصاصة".
ويرى الخبير العسكري، أن المعالجة المطلوبة لهذه الظاهرة يجب أن تكون مركبة: "المقاومة تتولى الحسم الأمني، والمجتمع يتكفل بالعزل الاجتماعي والعشائري لمن تورط". يشار أن العائلات الغزية تبرأت ممن التحق بتلك المجموعات ورفعت الغطاء العشائري والقانوني عن المنتسبين لها.
ويؤكد أبو زيد أن مواجهة هذه الجماعات لا تكون بالقوة فقط، بل عبر بناء وعي جماعي جديد يفضح أهداف الاحتلال ويعيد الثقة بين الناس والمقاومة. ويحذر من أن ترك هذه الملف دون حسم شامل سيؤدي إلى مواجهة يستفيد منها الاحتلال أكثر من أي طرف آخر.
معركة الوعي بعد الحرب
أخطر ما يمكن أن تتركه هذه المرحلة تراها الجديلي، ليس سلاح المليشيات، بل الشرخ النفسي الذي تحدثه في المجتمع. تقول: "الاحتلال لا يكتفي بالهدم المادي، بل يسعى لهدم الثقة بين الناس. وإذا لم يعالج ذلك بسرعة بعد الحرب، فسنواجه جيلا محبطا يرى أن النجاة تأتي من خيانة الوطن لا من الصمود فيه".
وتشدد على أن إعادة بناء الوعي الجمعي تبدأ من المدرسة والبيت والإعلام، وأن "المعركة الحقيقية بعد الهدوء هي معركة الوعي والانتماء".
أما أبو زيد، فيرى أن تفكيك هذه الجماعات ليس نهاية الخطر، بل بداية مسؤولية أكبر، "المقاومة نجحت في إجهاض المشروع الأمني للاحتلال، لكنها تحتاج الآن إلى مشروع وطني يعيد دمج المجتمع في معركة الوعي والبناء"، ويضيف أن "كل من تورط في هذه المجموعات يجب أن يحاسب لأن العدالة هي أقوى سلاح في مواجهة الفوضى".
ويتفق الخبيران على أن مستقبل غزة لن يصان إلا بوحدة مجتمعية تحاصر الفراغ الذي يتسلل منه الاحتلال، ويختمان: "في التاريخ، انتهت فصائل السلام بالعار لأن الشعب لفظها. واليوم، سينتهي من يسير على خطاها بالمصير ذاته، فغزة التي قاومت القصف قادرة على مقاومة الخيانة أيضا".