يرى الباحث في شؤون القدس زياد ابحيص أن المسجد الأقصى يواجه اليوم أخطر المراحل في تاريخه، ضمن مشروع إحلالي شامل يستهدف إزالته من الوجود وتأسيس "الهيكل" المزعوم على كامل مساحة المسجد البالغة 144 ألف متر مربع، بما يشمل مصلياته المسقوفة وقبابه وبوائكه ومساطبه وكل معالمه التاريخية والإسلامية.
ويقول ابحيص لصحيفة "فلسطين"، إن هذا المشروع لا يُنظر إليه من قبل العقلية الصهيونية كقضية دينية فحسب، بل كـ"بوابة الحسم الكبرى"، التي يسعى الاحتلال من خلالها إلى إنهاء قضية فلسطين بالكامل، عبر فرض واقع نهائي يجعل من فلسطين "إسرائيل الكبرى"، ومن القدس "أورشليم"، ومن المسجد الأقصى "الهيكل"، مشيراً إلى أن الأيديولوجيا الصهيونية الدينية تعتبر أن الحسم النهائي للنزاع يتحقق في المسجد الأقصى نفسه، وأن ما يُفرض فيه يمكن سحبه وتطبيقه في الضفة الغربية وغزة وبقية الأراضي الفلسطينية.
ويشرح أن العقلية الصهيونية تعمل وفق منهجية "التدرج المرحلي" في التعامل مع المسجد الأقصى، إذ بدأت أولاً بمحاولة نقل المسجد من خانة "المقدس الإسلامي الخالص" إلى خانة "الاشتراك المؤقت"، بحيث يصبح مكاناً مشتركاً بين اليهود والمسلمين من الناحية الزمنية والمكانية والرمزية، مشددًا على أن هذه المرحلة هي بوابة لإلغاء الهوية الإسلامية للمسجد بالكامل وتحويله تدريجياً إلى "هيكل يهودي خالص".
ويؤكد أن ما يجري اليوم من محاولات تقسيم زماني ومكاني وفرض مظاهر يهودية داخل المسجد الأقصى هو مرحلة انتقالية تمهيدية، وليست السقف النهائي للمشروع، لأن الهدف الأقصى هو إزالة المسجد الأقصى من الوجود وتحويله إلى هيكل شامل يمنع فيه أي مظهر من مظاهر الصلاة الإسلامية.
ثلاث نطاقات للهجمة الإسرائيلية
ويذكر ابحيص أن الاحتلال يعمل في ثلاثة نطاقات متكاملة لتحقيق هذا الهدف: تحت الأرض، وفوق الأرض، وحول المسجد. في النطاق الأول، أي تحت الأرض، يشير إلى أن الحفريات المستمرة منذ أكثر من 180 عاماً تهدف اليوم إلى خلق شبكة من الأنفاق الممتدة حول وتحت الأقصى، تروي "الرواية التوراتية" وتُستخدم كأداة لغسل الأدمغة وتثبيت السردية الصهيونية.
ويوضح أن الهدف من هذه الحفريات لم يعد البحث عن آثار مزعومة كما كان في السابق، بل تحويل المنطقة بأكملها إلى متحف توراتي، بإشراف وزارة السياحة الإسرائيلية وجمعية "إلعاد"، بعيداً عن إشراف هيئة الآثار الاسرائيلية.
ويحذر من أن هذه الحفريات باتت تشكل خطراً حقيقياً على البنية الإنشائية للمسجد، وخاصة التسوية الجنوبية الغربية منه، التي لم تُرمم منذ أكثر من تسعين عاماً، مشيراً إلى أن هذه المنطقة تعتمد على بناء قديم جداً يعود بعضه للعهد الروماني وبعضه للعهد الأموي، وأن تفريغ الاحتلال للأتربة المحيطة بها أضعفها بشكل خطير.
ويضيف أن الانهيار الذي وقع عام 2019 في الجدار الغربي كان دليلاً واضحاً على خطورة الوضع، وأن الاحتلال انتزع صلاحية الترميم من الأوقاف الأردنية وما زال يتولى هذا الملف منفرداً، مما يجعل المنطقة عرضة لانهيار محتمل تحت أي ظرف طبيعي بسيط كالزلازل أو الأمطار الغزيرة.
أما النطاق الثاني، وهو فوق الأرض، فيوضح ابحيص أنه الأخطر، إذ يسعى الاحتلال إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية: أولها فرض "المناصفة الزمنية" بين المسلمين واليهود في أوقات الصلاة والوجود داخل المسجد، حيث وصلت فترات اقتحام المستوطنين إلى أكثر من ست ساعات يومياً من الأحد إلى الخميس، في مقابل منع المسلمين من الدخول خلال الأعياد اليهودية بحجة المساواة.
الهدف الثاني هو "قضم أجزاء من المسجد"، لا سيما الساحة الشرقية المحيطة بمصلى باب الرحمة، والتي يتم التعامل معها اليوم كأنها كنيس غير معلن داخل المسجد، وقد شهدت العام الحالي تكثيفاً في الصلوات التوراتية فيها، إضافة إلى الدرج الغربي لقبة الصخرة الذي يشهد بدوره طقوساً مشابهة.
التأسيس المادي للهيكل
أما الهدف الثالث، فهو التعامل مع المسجد الأقصى وكأنه "هيكل قائم فعلاً" من الناحية المعنوية، عبر فرض الطقوس التوراتية داخله بشكل متزايد، من بينها طقوس القربان والانبطاح والسجود التوراتي، التي يُراد منها الإيحاء بأن الهيكل قد عاد فعلاً. ويبين ابحيص أن الصهيونية الدينية ترى أن هذا "التأسيس المعنوي" هو بوابة للتأسيس المادي للهيكل، تمهيداً لإقناع يهود العالم والصهيونية المسيحية بالمشاركة في هذا المسعى.
ويؤكد أن الصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة تُعد اليوم من أبرز الداعمين الماليين والسياسيين لهذه الأجندة، مشيراً إلى أن العديد من الشخصيات اليمينية المتطرفة في الإدارة الأمريكية تتبنى فكرة ذبح البقرات الحمراء وبناء الهيكل.
أما النطاق الثالث، فيتمثل في محيط المسجد الأقصى، حيث يعمل الاحتلال على تهويد شامل للبيئة المحيطة من خلال إقامة مراكز ومتاحف ومؤسسات توراتية تحيط بالمسجد من كل الجهات، ليبدو المشهد العام وكأن المسجد الأقصى يقع في قلب مدينة يهودية مقدسة.
ويحذر ابحيص من أن الاحتلال بات اليوم في مرحلة الانتقال من التأسيس المعنوي إلى التأسيس المادي للهيكل، إذ فُرضت معظم الصلوات التوراتية داخل المسجد، ولم يتبق سوى "القربان الحيواني" وبعض الأدوات التي يسعى الاحتلال لإدخالها تدريجياً مثل لفائف التوراة وخزائنها وأدوات التطهير، وهي الخطوة الأخيرة قبل التأسيس المادي الكامل.
وعن مدى مواتاة الظروف السياسية لهذا المخطط بعد حرب غزة، قال إن التجربة التاريخية تؤكد أن الاعتداء على الأقصى كان دائمًا شرارة الانفجارات الكبرى، من هبة النفق إلى انتفاضة الأقصى وهبة باب العامود وغيرها، ولذلك فإن الحديث عن أن الظروف مواتية لـ(إسرائيل) هو "وهم صهيوني قائم على قراءة رغبوية".
لكنه يؤكد في المقابل أن المواجهة المقبلة قريبة، وأن التغيير الجاري في هوية المسجد سيُفجر جولات مقاومة جديدة، ربما تنطلق من الضفة أو من القدس أو من داخل أراضي الـ48، وليس شرطًا أن تكون غزة في طليعتها هذه المرة.
ويختم بالقول: "نحن أمام تغيير عميق يجري الآن في هوية المسجد. هذا التغيير لن يمر دون انفجار. قد يكون بعد أشهر، وقد يطول لسنوات قليلة، لكنه آتٍ لا محالة".