منذ أكثر من عامين، تخوض "إسرائيل" أطول حروبها وأكثرها استنزافًا، حرب حشدت فيها مئات آلاف الجنود، وامتدت على نحو لم تعرفه أي معركة سابقة، تاركة وراءها خسائر بشرية ومادية ضخمة، وأخرى نفسية يصعب إحصاؤها.
وفي تقرير رسمي نُشر في تموز/يوليو 2025، أقرّت تقارير تابعة لجيش الاحتلال بتلقي نحو 9 آلاف بلاغ لإصابات نفسية منذ بدء الحرب على قطاع غزة في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.
هذه الأرقام تعكس تصاعدًا غير مسبوق في التاريخ العسكري للاحتلال، إذ لم يُسجَّل بعد عدوان 2014 على غزة سوى 159 حالة صدمة نفسية في صفوف الجنود الذين شاركوا حينها في القتال، وهي حرب لم تتجاوز مدتها شهرين فقط.
لكن حرب 2023، التي امتدت لأكثر من 24 شهرًا، أفرزت واقعًا مختلفًا: جيش يترنّح تحت وطأة هزائم ميدانية ومعنوية، وجنود يعودون من غزة مثقلين بـ"كوابيس القتال"، حيث تلاحقهم الأصوات والصور حتى بعد خلع بزّاتهم العسكرية.
ومنذ أسابيع، يعتصم جنود يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة أمام "الكنيست الإسرائيلي" احتجاجا على عدم الاعتراف بمعاناتهم والمطالبة بتقليص البيروقراطية في ما يتعلق بالرعاية النفسية. ودُعِي بعض أفراد الحراك الناشئ مرات عدة للإدلاء بشهاداتهم أمام لجنة الدفاع البرلمانية لعرض مطالبهم.
ومن بين المعتصمين ميخا كاتس الذي قال إن 60 جنديا انتحروا في الأشهر الأخيرة، لكن الجيش الإسرائيلي لم يقدم أي أرقام رسمية عن معدلات الانتحار في صفوفه.
ومن بين هؤلاء يوهان دوبنسكي الذي يقول "نحن لا نرغب بقتل أنفسنا، لكننا متعبون ويائسون بعد اختبار أهوال الحرب".
ويضيف دوبنسكي "يجب الاعتراف باضطراب ما بعد الصدمة كإصابة، تماما مثل الإصابة الجسدية. فهو ليس أقل خطورة، إنه إصابة في الروح".
من جانبه، يوضح تولي فلينت، وهو أخصائي في علاج اضطراب ما بعد الصدمة الناتج عن القتال، إن تبعات هذه الصدمات واسعة النطاق، مشيرا إلى أن "الناس يتحدثون عن معدل الانتحار، لكنه ليس إلا الجزء الظاهر من مسألة أكبر وأخطر بكثير".
ويؤكد فلينت إن تبعات الصدمة لا تقتصر على الانتحار "بل نرى أيضا عنفا، عنفا أسريا، نرى عائلات تنهار وأزواجا ينفصلون.. نرى الكثير من الناس ينهارون بأشكال مختلفة".
ويقول: "إذا سقط جندي في القتال جراء إصابته، وانتحر آخر بسبب ما مرّ به من تجارب، فهذا يعني أن لدى كلاهما جُرحا. أحدهما برصاصة، والآخر في ذهنه، لكن هذا يبقى جرحا. إنه جرح غير مرئي... ويستحق العلاج بالدرجة نفسها".
أما الضابط يسرائيل بن شطريت، يروي بعد مرور أشهر على عودته من خطوط القتال الأمامية في غزة، إن شبح الحرب ما زال يخيّم على حياته.
وأضاف: "صراخ الجندي طلبا للنجدة... سأظل أسمع ذلك الصراخ دوما في ذهني، أينما تواجدت"، في إشارة إلى جندي عجز عن إنقاذه في ساحة المعركة.
ولفت ضابط الاحتياط إلى أن الكثير من الأمور حوله تجعله يستحضر ذكريات مزعجة وصادمة نفسيا من وقت خدمته العسكرية في غزة، مضيفا: "عندما أسمع صوت طائرة مروحية، أعود مباشرة إلى خان يونس" في جنوب قطاع غزة التي شهدت معارك عنيفة.
وفي السياق، نشر المراسل العسكري لصحيفة "معاريف"، آفي أشكنازي، تقريرا عن كيفية تعامل الجيش مع تهديد بالانتحار في صفوفه. إذ "قرر قائد لواء "كفير" حل فصيلة "هاحود" في سريّة رماة الرشاشات التابعة لكتيبة "نحشون" إثر خلل قيادي في اللواء، نجَم عن حادثة هدد فيها جندي بالانتحار بعد إجباره على دخول غزة للمرة الثالثة".
وأضاف "حاول جندي الانتحار بسبب ضائقة نفسية ناجمة عن خدمته الطويلة في غزة. تجاهله قائد الفصيل، حتى إن الجندي وضع فوهة البندقية في فمه أمام القائد. ولم يلبث أن تدخل رقيب لاحظ ما يحدث وانتزع السلاح من يديْ الجندي".
واستمرت حالة الجندي النفسية في التدهور، وحاول الانتحار مجددًا، في ظل تجاهل القائد لحالته، قرر المقاتلون التخلي عن العملية في غزة، والتوجه إلى "مقر قائد الكتيبة" داخل غزة. عندها فقط، بدأ الجندي وجنود الفصيل الآخرون العلاج لدى قيادة الكتيبة، التي قررت تسريح الجندي فورًا من الخدمة، نظرًا لحالته النفسية الصعبة. وبعدها قرر الجيش إبلاغ قادة السرايا والكتائب في هذا اللواء أنه سيتم إبعادهم عن الخدمة القتالية لهذا السبب. وفي اليوم نفسه تم حل فصيل رماة الرشاشات، وهو الفصيل الثاني الذي يُحلّ في السرية خلال الأسابيع الأخيرة، من أصل 4 فصائل.
ويقر الجيش الإسرائيلي من دون الاعتراف بأرقام إجمالية أن هناك اتجاها مثيرا للقلق في عدد حالات الانتحار بين الجنود، وأن هناك علامات استفهام حول صحة طرق التعامل معها.
ومنذ بداية الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، قُتل 900 ضابط وجندي إسرائيلي، وفق البيانات المعلنة، بينما أصيب 6 آلاف و218 ضابطا وجنديا. من الجيش حتى الآن وارتفاعٍ كبير في حالات الانتحار.
والشهر الماضي، أنهى جندي إسرائيلي حياته، داخل قاعدة عسكرية شمالا، مما يرفع عدد العسكريين المنتحرين في جيش الاحتلال منذ بداية عام 2025 إلى 18، وفق إعلام إسرائيلي رسمي.

