قائمة الموقع

عودةٌ معلّقة… طلبة غزة ينتظرون الصفّ وسط ركام الحرب والغياب الطويل

2025-10-26T17:24:00+02:00
عودةٌ معلّقة… طلبة غزة ينتظرون الصفّ وسط ركام الحرب والغياب الطويل
فلسطين أون لاين

في حيّ الدرج شرق مدينة غزة، تجلس الطفلة تالا عاشور على صخرة صغيرة قرب ما تبقّى من سور مدرستها المدمّرة، تحمل في يديها دفتراً بالياً وقلمَ رصاصٍ قصيراً احتفظت به منذ آخر يوم دراسي قبل ثلاث سنوات.

تقول تالا بصوتٍ خافت: "كنت في الصف الثالث عندما توقفت المدرسة. اشتقت إلى السبّورة، إلى صوت المعلمة، وإلى صديقتي مروة. كل يوم أسأل أمي: متى نرجع إلى المدرسة؟ لكنها لا تعرف الجواب".

تالا اليوم في العاشرة من عمرها، لكنها لم تتابع تعليمها النظامي منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية في أكتوبر 2023. بعد عامين من الانقطاع الكامل عن الدراسة، أصبحت تواجه صعوبة في القراءة والكتابة، وتخشى أن تُطوى صفحة طفولتها دون شهادةٍ دراسية.

إلى جانبها تجلس شقيقتها جنى، التي كان من المفترض أن تبدأ رحلتها التعليمية في الصف الأول قبل أن تُغلق المدارس بسبب القصف. تشير بيدها الصغيرة إلى مبنى المدرسة وقد تحوّل إلى كومة من الركام، وتقول: «كنت أعدّ الأيام قبل دخولي المدرسة… الآن نسيت الحروف. ماما تحاول أن تعلّمني في البيت، لكني أريد أن أتعلم في الصف مع الأطفال».

تتنهد الأم وتقول إن أكبر أمنيتها اليوم ليست بيتاً جديداً، بل "مدرسة صغيرة ولو من خيام" تضمن ألا يضيع مستقبل ابنتيها. فبينما جُرفت المنازل وسُوّيت المدارس بالأرض، ظلّ حلم التعليم معلّقاً في ذاكرة مئات آلاف الطلبة الذين يعيشون فراغاً دراسيًّا ونفسيًّا عميقاً.

في مخيم النصيرات، يشارك يسري عجور (18 عاماً)، وهو طالب ثانوي نازح من مدينة غزة، ذات الوجع. يقول وهو يحمل حقيبته القديمة: «آخر امتحان قدمته كان في الصف العاشر. الآن لا أعرف من أين أبدأ لو عاد التعليم. نسينا الدروس، والكتب ضاعت، والمدرسون تفرّقوا في أماكن النزوح».

يتحدث يسري عن خوفه من النسيان أكثر من خوفه من القصف؛ فالعلم الذي كان يفتح له أبواب العالم أُغلق بوجهه مع كل باب مدرسةٍ انهار، ومع كل عامٍ ضاع في انتظارٍ بلا أفق.

ورغم إعلان وقف إطلاق النار في العاشر من أكتوبر 2025، لا تزال المدارس مغلقة، وبعضها يُستخدم كملاجئ للنازحين. وتقول منظمة اليونيسف في بيانها الأخير إن أكثر من 85% من مدارس غزة مدمّرة أو غير صالحة للاستخدام، وإن العودة إلى التعليم يجب أن تكون أولوية إنسانية عاجلة.

وجاء في البيان: "وقف إطلاق النار يمثل بصيص أملٍ كبيراً لأطفال غزة، لكنه لا يكفي ما لم يُترجم إلى فتح المدارس واستعادة حقّ كل طفل في التعليم".

الدمار الذي طال التعليم لا يقتصر على الجدران؛ فكثير من المعلمين فقدوا بيوتهم أو نزحوا أو أُصيبوا، والمناهج الدراسية توقفت منذ ثلاث سنوات، فيما يعاني الأطفال من اضطراباتٍ نفسيةٍ عميقة نتيجة الصدمات وفقدان الروتين المدرسي.

تقول المعلمة ريما جندية، وهي نازحة من حيّ الشجاعية وقد دُمّرت مدرسة دلال المغربي الثانوية للبنات التي كانت تعمل فيها: "نحتاج إلى إعادة بناء ليس فقط الفصول، بل الثقة داخل قلوب الأطفال. نصفهم فقد قدرته على التركيز أو التواصل. التعليم صار علاجاً نفسياً بقدر ما هو مهمة أكاديمية".

وبحسب بيانات اليونيسف، فإن أكثر من 645 ألف طفلٍ في قطاع غزة محرومون من التعليم النظامي منذ أكتوبر 2023، فيما تشير الأونروا إلى أن نحو 625 ألف طالبٍ – من بينهم حوالي 300 ألف في مدارسها – توقّفت رحلتهم التعليمية كليًا بسبب تدمير أو تعطّل المنشآت التعليمية. كما تفيد تقارير الأمم المتحدة بأن 95% من مدارس القطاع تحتاج إلى إعادة تأهيل كاملة قبل استئناف الدراسة.

وقالت اليونيسف في بيان آخر: "حتى إذا تحقق وقف إطلاق النار، فإن ذلك لا يكفي ما لم يُفتَح الباب أمام تعليمٍ حقيقيّ، لأن تأجيله يعني ضياع جيلٍ بأكمله".

في هذا المشهد القاتم، يبقى الأمل مشتعلاً في عيون الأطفال. تقول تالا وهي ترسم على ركام مدرستها قلباً صغيراً وداخله كلمة "مدرستي": "سأرجع… حتى لو بنوا المدرسة من خيام. المهم أتعلم".

تختصر كلماتها حلم جيلٍ بأكمله في غزة؛ جيلٍ لم يطلب سوى العودة إلى الصفّ، إلى القلم والدفتر، إلى الحياة التي تبدأ من على مقعدٍ خشبيٍّ متواضع… هناك، حيث التعليم ليس ترفاً، بل وعدُ البقاء.

 

اخبار ذات صلة