فلسطين أون لاين

​تكفيني أحاديثهم لأحترق

...
صورة أرشيفية لمدينة حلب السورية - (أ ف ب)
بقلم/ آلاء عوني المقيد

إن الحرية ليست هبة توهب, ولا تُعطى ولا تُشترى, ولا إرثاً يورث, بل هي حق ينتزع من بين مخالب السجّان الظالم.. ولابد لهذا الحق من ضريبة لكن هل الموت لم يعد كافياً لينال السوري حريته!.

ليس هناك ثمة ما يُقال في حضرة الموت وصور الأشلاء المتناثرة في الطرقات, وصرخات الثكلى , والخوف المقيم في عيون الأطفال, الكلمات لم تعد قادرة على الصمود أكثر أمام تلك المشاهد.. لا وصف لمشاعرنا. البكاء هو عزاؤنا الوحيد .

الامتناع عن مشاهدة ما يحدث في سوريا سيما بمدينة حلب, هي عادتي التي لا أنفك عن ممارستها منذ بدء الثورة.. فأنا لا أخاف من الأشلاء المبعثرة هناك بقدر خوفي على طفلٍ شاخص بصره يبحث عن أمه بين الجثث المكومة وفؤاده يرتجف!, لا أهاب فيديوهات الموت القادمة من حلب إلا خوفاً من أن أرى أماً ثكلى بوحيدها, وصِبْيَة تِقف القذائف لهم بالمرصاد, وعلى ركام البيوت, و كهل ترتجف عظامه من البرد ودموعه تستغيث " يا الله يا الله ليس لنا سواك يا الله".. ما أعجزني حين أرى كل هذه المشاهد ولا أملك من أمرهم شيئاً إلا الدموع, أترى بكاء العاجزين سيشفع لنا عند الله!

يكفيني أحاديث الشاهدين على المجازر هناك لأحترق, فأنا أرتطم كل يومٍ بقصص الثائرين الذين لم يتبق لهم سوى الله وقضيتهم التي يُبادون من أجلها واحدا تلو الآخر, فشاهد اليوم شهيد غد, "وضرب من الترف _كما قال أحد الناشطين السوريين_ أن تجد لك قبراً يليق برحيلك الأخير في المدينة المحاصرة والمنحسرة أحياؤها المحررة كأن ما يحدث في حلب يوم من أيام القيامة".

يكفيني أحاديث الشاهدين على المجازر هناك فهي بألف صورة وألفيّ شعور, يكفيني حديث أحدهم عن ركام بيتِ هُدم على عائلته فأصبح قبرهم الكبير في هذا الكون الضيق , تكفيني قصة أم الوليد التي لم تعد أماً بعد أن دفنت كل أولادها, تكفيني طعم كلماتهم المرّ ووحشية انسانيتنا لأحترق.

التاريخ لن يغفر ولن ينسى وسُيعطي كُل ذي حق حقه من الخذلان الذي أذقناه لحلب.

حُوصرت المدينة الشهباء ولم يسمع العالم الأبكم صرير البطون والتضور جوعاً هناك, ضيّعوا عِفة النساء, أكلوا بفِيه الحيوان الشرس ضِحكة الأطفال وفلذات أكباد الأمهات, ودفء الأسرة وطمأنينة المسجد.. حتى لم يعد في حلب ما يقرب إلى الحياة إلا قلوب من تبقى من الأحياء هناك.. هذه القلوب الثائرة التي خرجت تنشد الحرية غير مكترثة بالثمن, فالبيت هُدم والولد فُقد والطفل يُتّم والمسجد انهالت جدرانه على مشيعي جنازة شهيد فماتوا جميعًا, وظّل الواقفون قِلة, فالسلام عليهم والسلام على حلب الشامخة.