تحت سماء ملبّدة برماد الحرب، بدت مدينة غزة كجسد مثخن بالجراح، فالشوارع التي كانت تضج بالحياة، تحولت إلى ممرات موحشة تكسوها طبقة سميكة من الغبار والركام، فيما تتجلى آثار الثقوب والخراب على واجهات ما تبقى فيها من أبنية سكنية هشَّة.
غزة المدينة، عاصمة القطاع الساحلي كما يطلق عليها كثيرٌ من الغزِّيين، تحولت أجزاء واسعة منها إلى واحة كبيرة من الخراب والدمار في خضَّم حرب الإبادة الإسرائيلية التي بدأت يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وامتدت سنتين كاملتين.
ما إن تسير في شوارع المدينة المنكوبة، تدرك تمامًا حجم الدمار الذي خلفه جيش الاحتلال وترسانته العسكرية التي استخدمها في إحلال الخراب. ستواجه حقيقة مرَّة خبأتها الحرب طيلة أيام العدوان الذي شهدته المنطقة في الأيام الأخيرة لها.
وما إن دخل اتفاق وقف حرب الإبادة وتبادل الأسرى حيز التنفيذ يوم 10 أكتوبر 2025، تدفق المواطنون الصامدون في مدينة غزة إلى تفقد ما تبقى من منازل وممتلكات، وكانت الفاجعة الكبرى؛ أن أحياء واسعة منها تغيرت معالمها بالكامل، ولم يُترك شيء على حاله.
أبنية سكنية مدمرة بالكامل، وأخرى حرقها جنود الاحتلال عمدًا، ومراكز إيواء دمرتها طائرات الاحتلال بضربات جوية عنيفة، وشوارع جرفتها الآليات الضخمة تاركة ورائها ركامًا ورمادًا يتنفسه المواطنون.. هكذا يبدو المشهد للوهلة الأولى.
حياة سحقتها الحرب
في حي الشيخ رضوان، شمالي مدينة غزة، وهو أحد أحياء المدينة الأكثر تضررًا، كان المواطنون يعودون على استحياء، يسيرون بخطى ثقيلة فوق أنقاض منازلهم والشوارع المدمرة، تلتصق نظراتهم بمنازلهم المدمرة كأنهم يبحثون عن أثرٍ لحياتهم محتها ترسانة (إسرائيل) العسكرية.
أحمد أبو قادوس (34 عامًا)، واحدٌ من المواطنين الذي فجعوا بحجم الدمار الكبير. وقف أمام منزله واغرورقت عينيه بالدموع قبل أن يقول لـ"فلسطين": "كان لي منزل هنا"، وأشار بيده إلى بقية الأبنية المحيطة والتي طاولها الدمار أيضًا.
"جيش الاحتلال لم يدمر منزل العائلة فقط، لقد دمر كل شيء جميل في حياتنا، ومحى ذكرياتنا الطويلة." أضاف أبو قادوس بصوت متقطع.
في الجوار القريب، سارع الشاب عيد عمر (30 عامًا)، إلى إطفاء حريق شبَّ في منزله بعدما أحرقه جنود الاحتلال قبل انسحابهم من حي الشيخ رضوان. لم يقتصر الحريق على منزله بل امتد لمنازل أخرى، وانتشرت الألسنة الملتهبة كالنار في الهشيم، لتحرق كل شيء تُطاوله، مخلفة مشهدًا سوداويًا وألسنة دخان متصاعدة لم يقدر أحد على إخمادها.
قال عمر وجبينه يتصبب عرقًا: "لم أستطع فعل شيء، فلا يوجد لدي ما يمكنني من إطفاء النيران المشتعلة. منزلي يحترق أمامي، إنها أكبر مأساة عشتها في حياتي."
الدمار الكبير أيضًا طاول مناطق أخرى في مدينة غزة، وكان مروعًا بمعنى الكلمة، وتحديدًا في منطقتي الزرقة وشارع النفق أيضًا، الواقعتيْن شرقي المدينة.
ضياع الذكريات
هناك، بين ركام المنازل، كان المواطن محمود غبن يقلب بيدين مرتجفتين، يرفع حجارة ويضع أخرى، وكأنه ينبش عن ذاكرة مكسوةٍ بالرماد، فيما هيمن الحزن على وجهه وفرض نفسه بقوة هذه المرة بعدما فقد منزله الذي أفنى حياته وأفراد حياته من أجل إنشائه.
قال غبن لـ"فلسطين"، وهو يحدّق في الركام الذي كان منزلاً يومًا ما: "أبحث عن باب البيت، عن شجرة الزيتون التي زرعتها، لا أصدق أن كل شيء اختفى بهذه السهولة."
وفي خضَّم الحرب، قرر جيش الاحتلال خوض عملية عسكرية موسعة أطلق عليها "عربات جدوعون" في جزئها الثاني، واستهدفت تدمير مدينة غزة. وكان جيش الاحتلال قد بدأها بسلسلة ضربات جوية دمرت عشرات الأبنية والأبراج السكنية المترفعة.
وأجبر ذلك مئات آلاف المواطنين على النزوح إلى مخيمات المحافظة الوسطى لقطاع غزة، وكذلك مدينة خان يونس، جنوبًا، تحت هول القصف والقتل والتدمير.
شارع الجلاء، واحد من المناطق التي شهدت تدميرًا مكثفًا. تبدو المنازل والأعمدة الخرسانية متداخلة كأضلاع مكسورة، والمنازل المسطحة كصفحات محروقة من كتابٍ اسمه خراب المدينة، فيما يسد أنفك الهواء المشبع بالبارود والرماد.
وسط كل هذا، جلس لؤي حسين (40 عامًا) على حجر كان يومًا ما جزءًا من منزله، مذهولاً أمام ما خلفته آلة الحرب الإسرائيلية. بدأ يحدق في كل شيء حوله، ولم يجد سوى الدمار والغبار.
حلم اغتالته (إسرائيل)
قال لـ"فلسطين"، بصوتٍ بالكاد كان مسموعًا: "كنت أحلم بترميم الجدران، لكن لم أتصور للحظة أنني سأبحث عن ذكرياتي بين الركام."
تحت قدميه كانت ألعاب أطفاله مبعثرة، دراجة صغيرة نصفها مطمور في التراب، ودمية محروقة الوجه، كل شيء بدا كأنه شاهد على حياةٍ أُطفئت بعنف.
لكن رغم الألم والفقد، تنفست غزة شيئًا من الهدوء الذي فرضه اتفاق وقف الإبادة.
ولم يمضِ على الانسحاب وعودة المواطنين إلى مناطق معينة من المدينة سوى أيام قليلة، لكن سيطرة جيش الاحتلال بقوة النيران على مناطق واسعة وقريبة منهم لم يمنعهم من البدء برفع خيامهم مجددًا أمام ركام منازلهم، ولسان حالهم يقول: إننا باقون هنا، ولن نرحل.