في كلّ مرة نحسب أن الحكاية انتهت، تنهض غزّة من جديد، كأنها ترفض أن تكون فصلًا يُطوى في كتاب العالم، هذه المدينة التي عرفت الألم أكثر مما عرفت الراحة، لم ترفع يومًا راية الهزيمة، بل رفعت وجهها في وجه الريح وقالت: “ما دام فينا نفسٌ، فسنعيش.
منذ أن كُتبت فصول النكبة في عام 1948، وغزّة تتقدّم الصفوف كأنها قدرٌ فلسطينيٌّ لا يلين. تلك الرقعة الصغيرة التي ضمّت عشرات آلاف اللاجئين بعد سقوط القرى والمدن الفلسطينية، تحوّلت منذ اللحظة الأولى إلى قلب الحكاية. هناك، بين المخيمات الأولى التي نُصبت على عجل، بدأ يتشكّل الوعي الوطني الفلسطيني الحديث. كانت غزّة منذ البداية أكثر من مدينة، كانت ذاكرة جماعية للألم والنجاة، وجذوةً أُشعلت في قلب العروبة، لتظلّ متقدة حتى يومنا هذا.
في الخمسينيات، ومع انطلاق حركة الفدائيين الأوائل، كانت غزّة قاعدةً للمقاومة الأولى، تُرسل أبناءها عبر الأسلاك والحواجز إلى ما وراء الحدود، لتُبقي الوطن حيًّا في الذاكرة. وفي عام 1967، حين سقطت تحت الاحتلال، ظنّ العالم أن صوتها سيخفت، لكنّها سرعان ما تحوّلت إلى بؤرة مقاومةٍ حضارية وإنسانية، تولّد من الفقر والإصرار ما لا تولّده الجيوش من العتاد والسلاح.
وفي الانتفاضة الأولى عام 1987، انطلقت الشرارة من جباليا في غزّة، حين رفع الأطفال الحجارة في وجه الدبابات، فاهتزّت المنطقة بأكملها. كانت تلك اللحظة التاريخية إيذانًا بأنّ الوعي الشعبي قد تجاوز الخوف، وأنّ غزّة لا تعرف الاستكانة. ومنذ ذلك اليوم، أصبحت المدينة عنوانًا للمقاومة، ورمزًا للكرامة الفلسطينية المتوارثة جيلًا بعد جيل.
مرّت السنوات، وتغيّر العالم، لكنّ الحصار بقي، وتكرّرت الحروب: 2008، 2012، 2014، 2021، وصولًا إلى حرب 2023-2024 التي كشفت للعالم حجم الثمن الذي يدفعه الفلسطيني ليحافظ على حقّه في الحياة. في كلّ حربٍ كانت غزّة تُحاصَر بالنار والدمار، لكنها تخرج منها أقوى، كما لو أنّها تتحدّى قانون الفناء ذاته. فبينما ينهار المنطق أمام هذا الكمّ من القسوة، كانت غزّة تصوغ من ركامها منطقًا جديدًا للوجود، عنوانه: “لن نُهزم لأننا على حق".
غير أنّ التحوّل الأكبر لم يكن في ميادين القتال، بل في ميادين الوعي. فالحرب الأخيرة لم تكن معركةً بالسلاح فقط، بل معركةً على الرواية. للمرة الأولى، استطاع الفلسطيني أن يروي قصّته بنفسه، بلا وسطاء، بلا أقنعة إعلامية. خرجت صور الأطفال من تحت الأنقاض لتخترق جدران الصمت العالمي، وأصبحت غزّة حديث الناس في كلّ بيت، من نيويورك إلى جاكرتا. كان ذلك الانتصار الإنساني الأكبر، إذ تحوّلت القضية من شأنٍ محليٍّ إلى ضميرٍ عالميٍّ مفتوح.
اليوم، حين تُرفع أعلام فلسطين في شوارع العواصم الغربية، يدرك المرء أن الزمن قد دار دورته. فالمشهد الذي كان محاصرًا داخل الجغرافيا الفلسطينية، صار الآن مشهدًا كونيًّا يُعبّر عن صراع الإنسان مع الظلم في أي مكان. لم تعد غزّة وحدها في الميدان، بل صار معها كل من يرى في مقاومتها مرآةً لكرامة البشرية جمعاء.
وهنا، في قلب التاريخ، تتجلّى المفارقة الأجمل: أن الفرح في غزّة لم يعد مرهونًا بانتهاء الحرب، بل بقدرتها على البقاء. الفرح هناك ليس نقيض الألم، بل وليده. إنه فرح البقاء بعد كل محاولة إفناء، وفرح الإيمان بأن الحقّ، مهما طال ليله، لا بدّ أن يُشرق من جديد.
غزّة اليوم تُذكّرنا بما نسيه التاريخ طويلاً: أنّ الشعوب لا تُهزم بالحصار، بل تُولد منه. وأنّ المدن التي تُقصف لا تموت، بل تُعيد تشكيل معناها في ذاكرة العالم. إنّها تُعلّمنا أنّ القوة الحقيقية ليست في السلاح، بل في الإصرار على الوجود الإنساني رغم استحالة العيش.
وحين يكتب المؤرخون بعد عقود قصة هذه المرحلة، لن يكتبوا أرقام الضحايا ولا حجم الدمار، بل سيكتبون عن مدينةٍ واجهت العالم بأكمله بإرادةٍ لا تُقهر، وعن شعبٍ جعل من وجعه كرامة، ومن نكبته وعدًا بالنور.
ستبقى غزّة في صفحات التاريخ شاهدًا على أن الحقّ لا يُمحى، وأنّ النار قد تُحرق الجسد، لكنها تُنير الطريق للأمم التي تؤمن بالحرية.
ولعلّ أعظم ما أنجزته غزّة في هذه الحرب، أنها وحّدت وجدان العالم حول قضيةٍ ظلّت لعقودٍ تُختزل في السياسة، لتعود اليوم إلى جوهرها الإنساني الأصيل.
سيأتي يومٌ تُكتب فيه حكاية غزّة من جديد، لا بلغة الدمار، بل بلغة النهوض. سيذكر التاريخ أنّ في هذا الركن الصغير من الأرض، وقف شعبٌ أعزل في وجه آلةٍ عاتية، وانتصر بالكرامة على القوة، وبالإيمان على الرعب.
وسيقول العالم بعد زمنٍ طويل: في غزّة، لم تنتصر القنابل، بل انتصر الإنسان.