بات من الواضح أن مبعوثي (السلام) الأمريكيين إلى منطقة الشرق الأوسط، المكلفين بالتسوية الفلسطينية الإسرائيلية، وإعادة تنشيط مفاوضات (السلام) وملفات التسوية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي بعد طول انقطاعٍ وتعثرٍ، أنهما يقومان بمهمةٍ خطيرةٍ، وينفذان خطةً شيطانية، تستهدف القضاء على القضية الفلسطينية، وتفتيت الأمل الفلسطيني، ووضع نهايةٍ مأسويةٍ لحلم الشعب الفلسطيني بدولته المستقلة، وسيادته الوطنية الكاملة على أرضه ومقدراته ومقدساته، وتنهي أملهم في استعادة الحقوق والعودة إلى الديار.
في الوقت نفسه يشرع المبعوثان دولة الكيان الصهيوني، ويفرضان على الدول العربية الاعتراف بها، والقبول بها عضوًا في الإقليم، ودولةً كاملة الحقوق في المنطقة، تربطهم بها علاقاتٌ طبيعية وتقاليد حسن جوارٍ محترمة، يتبادلون معها التمثيل الدبلوماسي، وترتفع أعلامهم الوطنية إلى جانب العلم الإسرائيلي، وتنشأ بينهما أنشطة تجارية واقتصادية وسياحية مختلفة، وتوقع بينهما اتفاقيات تعاونٍ أمني وجنائي وتبادلٍ للمجرمين والمطلوبين، وتنسيقٍ أمني دائم، ومشاركةٍ متنوعة في المناورات العسكرية التي تجرى في المنطقة، على أن تتعهد الدول العربية بمجموعها حفظ أمن الكيان، وتحول دون القيام بأي أعمالٍ عسكرية أو أمنية تستهدفه وتضر به، بل تحرم وتجرم الإضرار بأمنه، وتحارب كل من يخطط أو ينفذ عملياتٍ ضده.
لهذه المهمة الصعبة والخطيرة، التي سيكون لها آثارها المستقبلية الكبيرة اختار الرئيس الأمريكي دونالد رامب وإدارته مبعوثيه بعنايةٍ فائقةٍ، وانتقاهما عن وعيٍ وخبرةٍ ودراية، من بين العديدِ من الدبلوماسيين وأصحاب الخبرة والكفاءة.
فهذا صهره زوج ابنته جاريد كوشنير يهودي الديانة، صهيوني السياسة، عنصري السلوك والممارسة، يحرص على الكيان الصهيوني ويؤمن بالاستيطان ويدعو إليه، ويخدم في جيشه ويقاتل معه، ويؤمن بالقدس عاصمةً للكيان موحدة، ويرفض تقسيمها أو تدويلها، ويدعو رئيسه لنقل سفارة بلاده إليها، وينشط في منظمة (إيباك) الأمريكية، وعندما اختاره الرئيس الأمريكي لهذه المهمة كان يعلم أنه وزوجته إيفانكا التي اعتنقت اليهودية سيعملان بإخلاصٍ من أجل دولة اليهود، وأنهما لن يخونا كيانهما، ولن يضرا بمصالحه، ولن يفرضا عليه ما لا يريده أو ما لا يفيده، ورأى أن كوشنير سيمثل فرصةً ذهبية للكيان العبري، إذ سيخدمه بصدقٍ وإخلاصٍ، بوما يحقق أمنه واستقراره، وبما يحفظ بقاءه ويشرع وجوده.
أما الثاني جيسون غرينبلات فلا يخفي محاباته للكيان، ولا يتردد في الضغط على السلطة الفلسطينية، ومطالبتها بتكثيف التنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي، وبذل المزيد من الجهود لملاحقة من يسميهم "حملة السلاح ومنفذي العمليات العسكرية، والمحرضين على العنف والداعين له"، ويطالبها بالتوقف التام عن القيام بأي خطواتٍ أحادية الجانب، ويحذرها من مغبة تقديم طلبات انتساب إلى المنظمات الدولية والإقليمية، تمهيدًا لتقديم شكاوى ضد الحكومة الإسرائيلية، أو المطالبة بملاحقة ومحاكمة بعض قادتها ومسؤوليها.
ولا يخجل من الطلب من قوى المقاومة الفلسطينية نبذ العنف والإرهاب ونزع سلاحها، وتخليها عن المقاومة، واعترافها بالكيان العبري، وقبولها بالاتفاقيات الدولية والتفاهمات البينية السابقة، ويجبن عن الطلب من الكيان الكف عن الممارسات الاستفزازية، والتوقف عن عمليات الاقتحام والمداهمة، أو تجميد الاستيطان والامتناع عن مصادرة المزيد من الأراضي الفلسطينية.
الإسرائيليون يرحبون بالمبعوثين الأمريكيين، ويسهلان عملهما ويبشان في وجههما، ويتمنيان لهما النجاح في خلق فرصٍ للسلام والازدهار في المنطقة، ويعدانهما بالعمل الجاد معهما، لكن الإسرائيليين ورئيس حكومتهم بنيامين نتنياهو الذين يعدونهما بتسهيل مهمتهما السياسية يعلمون خطة الرجلين، ويطمئنون إلى نوايا الإدارة الأمريكية، ولا يشعرون أنهم يتعاملون مع طرفٍ آخر أو وسيطٍ غريبٍ، إنما يتعاملون مع أنفسهم، أو مع يهودٍ مثلهم، يؤمنون بمشروعهم ويحرصون عليه، ولا يمكن لهم أن يكونا مع الفلسطينيين ضدهم، ولهذا فتحت الحكومة الإسرائيلية لهما الأبواب والتقتهما مجتمعين ومنفردين، وزودتهما بما يحتاجان إليه من خرائط وصورٍ ومشاريع وتصوراتٍ، وأفردت لهما طواقم تنفيذية مساعدة وأخرى استشارية أمنية وسياسية.
أما الفلسطينيون فيخشون الرجلين ويحذران منهما، ولا يرحبان بهما إلا قليلًا على المستوى الرسمي، ذلك أنهم يعلمون حقيقة نواياهما، وخطورة مشروعهما، وأنهما قد أتيا إلى المنطقة لتمرير ما يسمى صفقة القرن، التي ترمي إلى تصفية القضية الفلسطينية، وإنهاء الحلم الفلسطيني وتدميره بتحقيق الأحلام الصهيونية والمشاريع الإسرائيلية كافة، التي كانت قديمًا مستحيلة وغدت اليوم ممكنة.
لكن السلطة الفلسطينية مع علمها بسوء نواياهما وقبح مسعاهما تتعامل معهما بخوفٍ، وتخشى صدهما أو الاعتراض عليهما ورفض خططهما، وتجتمع معهما متى أرادا، وتستقبلهما متى جاءا، وتمتنع عن انتقادهما، إذا ما انتهيا من الزيارة وغادرا، مخافة الغضب الأمريكي، وتوقف المساعدات، وفرض العقوبات، وتشديد الحصار والعزلة الدولية عليها.
لكن الرجلين لا يتحركان وحدهما، ولا ينفذان الخطة الأمريكية الإسرائيلية بمفردهما، بل يعينهما عليها عربٌ ومسلمون، ممن كنا نأمل منهم خيرًا، ونظن فيهم عونًا وسندًا، ونركن إليهم أنهم معنا جنودًا ناصرين وأعوانًا مناصرين، لكنهم انقلبوا على الفلسطينيين وحقهم، وتآمروا عليهم في وطنهم، وتحالفوا مع العدو ضدهم، ظانين أنه آمن لهم من غيره، وأن أقرب إليهم من سواه، وأنه لا يتآمر عليهم، ولا يروم بهم شرًّا، فرأوا مسالمته ومصافحته، والتحالف معه والتعاون وإياه في تنفيذ الخطط التي يرسمها المعادون لأمتنا، ولهذا باتت مهمة الرجلين سهلة وممكنة، وغدت الأحلام الصهيونية قريبة وواقعية، فبعض العرب يؤيدونها ويؤمنون بها، ويسعون إلى تحقيقها ويرفضون الاعتراض عليها أو تعطيلها.
وقد أكد أكثر من مسؤولٍ عربي بعد تولي دونالد ترامب الرئاسة الأمريكية أن مفاتيح تسوية القضية الفلسطينية باتت بيد الإدارة الأمريكية، وأنها قادرة على تمرير الحلول التي تؤمن بها، بالاتفاق مع الحكومة الإسرائيلية أو الضغط عليها، وفي هذه التصريحات إقرارٌ عربي رسمي بالعجز، واعترافٌ بالفشل، وإعلانٌ صريحٌ بالرغبة في التخلي عن الدور والتنازل عن الحق، ولكنهم نسوا أن الفلسطينيين سيقاومون، ولو كانوا وحدهم، وسيصرون على حقهم، ولو تخلى عنهم إخوانهم، وسيبقون على ثوابتهم، مهما طال الزمن أو تأخر النصر، فهذا يقينهم بالله الذي لا يتزعزع، وإيمانهم بالوعد الإلهي الذي لن يتأخر.