يُصر آلاف المواطنين في مدينة غزة على البقاء في مدينتهم وعدم الانصياع لأوامر الاحتلال بالتوجه إلى ما تُسمى "المناطق الإنسانية" كما يزعم الاحتلال في جنوب القطاع، وذلك رغم القصف العنيف الذي يطال المدينة منذ أكثر من أسبوعين متواصلين، والتوغل البري في المناطق الشرقية لها.
ورغم أن الغزيين يدركون أن حياتهم محفوفة بالموت والحرمان، إلا أنهم يتمسكون بمدينتهم كما يتمسك الغريق بخشبة النجاة، ويرفضون أن يكونوا ضحية نكبة جديدة. وبينما يحاول الاحتلال دفعهم إلى النزوح جنوباً يرد السكان بقرار جماعي "غزة هي بيتنا الأخير ولن نتركها".
مدينة غزة التي يقطنها حالياً أكثر من مليون نسمة، لم تعد مجرد جغرافيا محاصرة؛ إنها البيت الأخير لمئات الآلاف من الأسر التي فقدت منازلها أكثر من مرة في الحروب المتكررة. "إذا تركنا بيوتنا، فمن يضمن لنا العودة لها؟"، هكذا يقول سعيد مهدي مرزوق (32 عاماً) الذي رفض النزوح رغم القصف الكثيف الذي طال الحي الذي يقطن فيه.
واضطر مرزوق الذي يعيل أسرّة مكونة من خمسة أفراد لترك منزله الواقع في بداية شارع الصفطاوي شمال مدينة غزة، والتوجه إلى مخيم الشاطئ غربي مدينة غزة، ويضيف لمراسل صحيفة "فلسطين": "تجرعنا ويلات النزوح مراراً وتكراراً منذ اندلاع الحرب، وهذه المرّة الاحتلال يريد اقتلاعنا وتهجيرنا بشكل نهائي، لذلك سأبقى في غزة ولن اتركهاً".
فيما يقول المواطن حسام فرينة وهو أب لسبعة أبناء: "لا يوجد أي مكان آمن في قطاع غزة، حتى المنطقة الامنة التي يروّج لها الاحتلال يطالها القصف بشكل يومي، فما الفائدة من النزوح؟".
ويحكي فرينة الذي يقطن في حي الشيخ رضوان شمال غرب مدينة غزة لصحيفة "فلسطين"، أن الاحتلال يسعى لتهجير سكان المدينة وترحيلهم إلى الجنوب تمهيداً لتهجيرهم إلى خارج القطاع، "وهذا لن يحدث وسأبقى في منزلي مهما كلفني الثمن"، وفق تعبيره.
وتعكس كلمات "فرينة" هاجساً جماعياً يتردد على ألسنة كثير من سكان المدينة، إذ يخشون أن يكون النزوح جنوباً مقدمة لتهجير أكبر إلى خارج قطاع غزة، وهو ما يعتبرونه خطاً أحمر يهدد وجودهم الوطني.
وتعيش الأسر الغزية اليوم معادلة قاسية: إما مواجهة الموت تحت القصف في مدينتهم، أو مواجهة المجهول في رحلة نزوح محفوفة بالمخاطر. تقول أم أكرم حسنين وهي أم لأربعة أطفال: "النزوح رحلة مكلفة ومُرهقة من مختلف الجوانب. رغم أنني أعيش في صف بمدرسة لإيواء النازحين حياة صعبة إلا أن القصف والصواريخ أهون من النزوح".
وتواصل حسنين حديثها لصحيفة "فلسطين"، "النزوح يعني النوم في خيام بلا ماء ولا غذاء ولا دواء، ما يعني أننا ذاهبون للجحيم. لذلك قررنا أن نصمد هنا مهما كلفنا الأمر".
يقول أحد صلوحة، وهو طالب في الثانوية العامة، يعيش في حي الكرامة شمال غرب مدينة غزة: "النزوح ليس أمراً سهلاً، خصوصاً أنني أتقدم حالياً لامتحانات الثانوية العامة الكترونياً، وهذا الأمر يزيد الأعباء الملقاة على عاتقي".
ويضيف صلوحة لـ "فلسطين": "غزة ليست مباني فقط، إنها أرواحنا. إذا تركناها، نكون قد خسرنا كل شيء. الاحتلال يريد أن يفرغ المدينة، ونحن نقول له: لن تستطيع".
ورغم إصرار السكان على البقاء، إلا أن حياتهم اليومية تزداد قسوة: شح في المياه الصالحة للشرب، انقطاع شبه دائم للكهرباء، نقص حاد في الغذاء والدواء، وانهيار كامل للبنية الصحية. ومع ذلك، يصرّ كثيرون على أن هذه المعاناة أهون من التهجير القسري.
وشهدت مدينة غزة على مدار الأسبوعين الماضيين ولا تزال، تصاعداً في وتيرة التصعيد الإسرائيلي ضمن الخطة الإسرائيلية التي تستهدف إخلاء المدينة والسيطرة عليها تماماً، وتدمير ما تبقى من بنية تحتية فيها، وهدم البيوت والأبراج.
وكان الاحتلال الإسرائيلي قد دعا سكان مدينة غزة من حي التفاح شرقاً، وحتى كامل مناطق الغرب للإخلاء أمس، عبر إعلان أصدره الناطق باسم جيشه افيخاي ادرعي، فيما ألقت الطائرات المُسيّرة آلاف المنشورات التي حملت المضمون ذاته.