يشهد العالم موجة تضامن غير مسبوقة مع الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، إذ تتلاقى التحركات الشعبية والجماهيرية مع مبادرات دولية رمزية، مثل إطلاق "أسطول الصمود" العالمي، في مشهد يعكس تحوّلاً عميقاً في المزاج الشعبي العالمي تجاه القضية الفلسطينية.
يبدو واضحاً أن أسطول الصمود وموجة التضامن العالمي مع غزة يعكسان تحولاً نوعياً في المشهد الدولي للقضية الفلسطينية. فبينما يواصل الاحتلال حربه الوحشية، يجد نفسه في مواجهة وعي عالمي متجدد يعرّي جرائمه، ويعيد القضية الفلسطينية إلى الواجهة السياسية والشعبية على الساحة الدولية.
ومما لا شك فإن هذا التحول، وإن لم يوقف العدوان فوراً، إلا أنه يرسم ملامح مرحلة جديدة من الدعم الأممي لفلسطين قد تمتد آثارها لعقود قادمة.
يرى الكاتب والمختص في الشؤون الأوروبية حسام شاكر، أن "أسطول الصمود" يمثل محطة مفصلية في تاريخ المبادرات الشعبية المناهضة للحصار والحرب على غزة، ويحمل في داخله تلاقح تجارب دولية من قارات عدة، ويعكس التزاماً انسانياً واخلاقياً يتجاوز حدود الانتماء القومي أو الديني.
وأوضح شاكر لـ "فلسطين أون لاين"، أن هذا الأسطول، الذي يضم شخصيات عامة ونشطاء من الجنوب العالمي والغرب على حد سواء، هو بمثابة رسالة جماهيرية مضطردة التطور تعبّر عن التحام شعوب مختلفة مع صمود الفلسطينيين في وجه حرب الإبادة.
وبيّن أن هذه المبادرة لا تقتصر على بعد رمزي فحسب، بل تسعى أيضاً إلى رفع مستوى الخطاب العالمي وفضح جرائم الاحتلال الإسرائيلي، مع الدفع باتجاه مقاضاة الاحتلال دولياً وكشف تواطؤ القوى المترددة في فرض العقوبات عليه.
تجدر الإشارة إلى أنه ليست هذه المرة الأولى التي تشهد فيها غزة تحركاً دولياً بحرياً. فمنذ عام 2008 أُطلقت عدة محاولات لكسر الحصار البحري المفروض على القطاع، كان أبرزها "أسطول الحرية" عام 2010 الذي تعرّض لهجوم دموي إسرائيلي على متن سفينة "مافي مرمرة"، ما أسفر عن سقوط عشرة نشطاء أتراك وإثارة أزمة دبلوماسية كبرى بين أنقرة وتل أبيب.
وتوالت بعد ذلك المحاولات عبر قوافل بحرية أقل حجماً، لكن جميعها واجهت عراقيل إسرائيلية، إما بالمنع أو القرصنة أو التهديد. ومع ذلك، ظلت هذه الأساطيل بمثابة رمز مقاومة مدنية وسلمية للحصار المفروض منذ 2007، ورسالة متكررة بأن العالم لن يترك غزة وحيدة.
إعادة القضية للصدارة
من جانبه، يرى أستاذ العلاقات الدولية رائد بدوية، أن المشهد الحالي يكشف عن عودة القضية الفلسطينية إلى صدارة الرأي العام العالمي، وخصوصاً في الدول الغربية، مشيراً إلى أن عواصم أوروبية كبرى كلندن وبرلين وباريس، شهدت إضافة إلى مدن أمريكية وكندية، مظاهرات مليونية دعماً لغزة ورفضاً للإبادة.
وبيّن بدوية لـ "فلسطين"، أن هذا التضامن الشعبي ينعكس بصورة مباشرة وغير مباشرة على المنظومات السياسية الغربية، حيث بدأت بعض الحكومات الأوروبية تعديل مواقفها تجاه (إسرائيل) سواء عبر مراجعة صادرات السلاح، أو من خلال التصريحات الدبلوماسية الأكثر نقداً للعدوان.
ويستشهد بدوية بمواقف وزير الخارجية البلجيكي الذي دعا للاعتراف بالدولة الفلسطينية وفرض عقوبات على الاحتلال، معتبراً أن هذا التطور يمثل تحولاً جذرياً في الخطاب السياسي الأوروبي نتيجة الضغط الشعبي المتصاعد.
في المقابل، يشير بدوية إلى أن التفاعل الشعبي في الشارع العربي والإسلامي جاء محدوداً ومجزأً، مقارنة بالحراك الغربي، وهو ما يعزوه إلى القيود السياسية والقمعية في عدد من الدول العربية.
ويعتبر أن هذه الفجوة بين الشارعين الغربي والعربي تكشف مفارقة لافتة: بينما تتيح الديمقراطيات الغربية مساحات للتعبير عن التضامن مع غزة، يجد الشارع العربي نفسه مقيداً رغم قربه الجغرافي والوجداني من القضية الفلسطينية.
تحولات طويلة
التطور الأهم، وفق بدوية، يتمثل في أن التضامن الحالي مع غزة لن يكون عابراً، بل سيترك بصمته على الأجيال القادمة، لافتاً إلى أن السردية الفلسطينية حققت مكاسب كبيرة في الرأي العام العالمي، فيما تعرضت الرواية الإسرائيلية لتآكل ملحوظ، حتى أن شخصيات أمريكية بارزة مثل دونالد ترامب اعترفت بأن (إسرائيل) تخسر معركة العلاقات العامة على المستوى الدولي.
هذا الإدراك، بحسب بدوية، يثير مخاوف إسرائيلية عميقة، ليس فقط من المظاهرات الآنية، بل من انعكاساتها على الأحزاب والسياسات الداخلية في الغرب، وهو ما حذرت منه مقالات إسرائيلية أخيراً.
ورغم الزخم الشعبي والسياسي المتصاعد، يظل السؤال: هل يمكن لهذه التحركات أن توقف حرب الإبادة الجارية في غزة؟ يرى شاكر أن الضغوط الجماهيرية ستواصل التصاعد حتى بعد توقف العمليات العسكرية، وأنها تفتح الباب لمحاسبة الاحتلال دولياً وتكثيف الدعوات لفرض العقوبات.
بينما يذهب بدوية إلى أن تأثير التضامن قد يسرّع في إنهاء العدوان أو يفرض قيوداً على استمراره، لكنه لن يكون العامل الحاسم في قرارات حكومة نتنياهو، التي يربطها بمصالح سياسية وائتلافية داخلية أكثر من ارتباطها برأي الشعوب أو حتى المجتمع الدولي.