كانت كاميرته تسجل الحياة بمحيط مستشفى ناصر من فوق سطح قسم الطوارئ، لصالح الوكالة العالمية الكبرى "رويترز" وحتى هذه لم تفلت من الاستهداف، إذ أوقفت قذيفة أطلقتها دبابة إسرائيلية تسجيل الكاميرا التي انطفأت بدماء المصور الصحفي حسام المصري (49 سنة).
بعد دقائق من الاستهداف الذي وقع يوم 25 آب/ أغسطس، تسلق صحفيون ومسعفون وطواقم دفاع المدني درج الطوارئ، توزعوا بين من أراد التوثيق ومن أراد الإنقاذ. من بعيد كان البث المباشر يلتقط صورًا للحدث، ولم يدرِ جميعهم أن حدثا آخر سيبث على الهواء، عندما استهدف الاحتلال مرة ثانية جميع الطواقم الصحفية والدفاع المدني والطبية على الهواء مباشرة وأمام أنظار العالم.
لم يعد مجالا للإنكار ولا لإخفاء الحقائق والتلاعب بالمصطلحات أو إلصاق تهم من الاحتلال أو الادعاء أنه كان بغير قصد، فقد بثت الحقيقة بدماء الطواقم التي جاءت لإنقاذ الحياة وكشف الحقيقة، هذا المشهد يلخص وحشية الاحتلال وصمت العالم، كان حسام المصري واحدا من خمسة عيون صحفية فاستشهد.
فاستشهد كذلك محمد سلامة مصور الجزيرة ومريم أبو دقة مراسلة "اندبندنت عربية"، ومعاذ أبو طه مراسل شبكة NBC الأمريكية، والصحفي أحمد أبو عزيز.
ثلاث مهن إنسانية في الصورة والمشهد، صحافة ودفاع مدني وطواقم طبية، يفترض أن يكونوا محميين بموجب القانون الدولي، استشهد خمسة صحفيين واستشهدت العديد من الطواقم الطبية ورجال الدفاع المدني، وكاميراتهم كانت تسجل آخر لحظة.
اللحظات الأخيرة
قبل خمسة دقائق تحدثت سماهر المصري مع زوجها حسام، حول ما ينقصهم داخل خيمة أقامها على أنقاض بيته بمحيط المشفى، ورغم قرب خيمته الصحفية من خيمة العائلة كانوا لا يرونه إلا قليلا من شدة انهماكه في العمل والتوثيق، حتى عندما حدث الانفجار لم تتوقع أنه استهدف زوجها، إلا عندما سمعت الجيران يتناقلون اسمه، ليرحل في أطول تغطية صحفية خاضها طوال حياته، أبعده الميدان عن أسرته التي ظلت في شوق إليه.
على مدار 20 سنة من مرضها، لم يتركها زوجها الذي رافقها في كل رحلاتها العلاجية لمعالجة مشكلة "صدفية بالمفاصل" كانت تتطلب جلسات علاجية وسفر إلى الضفة، وبسبب الحرب انقطع العلاج وتفاقمت حالتها، وكان يسعى ويناشد لإجلائها من غزة.
بقلب مثقل بالفقد، تروي المصري لـ "فلسطين أون لاين": "طوال الحرب انشغل حسام بالعمل ولم نكن نراه رغم أنه لم يبعد عنا سوى مئات الأمتار، وفي آخر شهر طلبنا منه أن ينام بخيمتنا وكنا نراه مساء، متعبًا من شدة ضغط العمل، ورغم بعده كان يتابع أمورنا ويرسل لنا كافة احتياجاتنا ويتحدث معنا هاتفيا كل صباح ليسألنا عما ينقصنا وتحدثت معه قبل القصف بخمس دقائق وكنت في السوق أقوم بشراء الخضار".
لدى المصور المصري أربعة أبناء (اثنان ذكور واثنان إناث) أكبرهم يبلغ من العمر 21 سنة، كان شديد التعلق بأبنائه وبيته الذي هدمه الاحتلال في الحرب، ووصف ذلك وهو يرثي بيته باكيا في مقطع فيديو نشره بأن "الحياة انتهت بعد هدم البيت"، وقال في الفيديو الذي سجله على أنقاض البيت: " المكان موحش، كانت هنا الحياة وكان هنا الأطفال يلعبون، وكان الناس، ولكن انتهت الحياة، أين البيوت والأطفال والناس؟. لم يبق غير الأطلال التي نبكي عليها".
وكأن الاحتلال انتزع شيئا من جسده، تعلق زوجته بنبرة مكسورة: "بنى البيت بصعوبة وبعد انتظار طويل، وعشنا عمرا فيه منذ عام 2008، في كل ركن فيه لنا ذكريات وحكايا، لكنه أصر على إنشاء الخيمة فوق ركام البيت والعيش على أطلال الذكريات".
أما شقيقه الصحفي عز المصري (62 سنة) فلم يدرك أن شقيقه الفتى الذي اصطحبه للعمل معه قبل ثلاثين عاما كبر وبات على أعتاب الخمسين وكأن المهنة سرقت العمر الذي أفناه لأجلها حسام، فطوال الوقت كانا يتواجدا مع بعضهم، يقول لـ "فلسطين أون لاين": "لم انتبه بتغير العمر ومروره بهذه السرعة، حتى أنني لم ألتقط صورة تجمعنا معا، لأنني كنت أشعر أنه حاضر دائما وجزء من كياني ولن يغيب، لكنه غاب".
قبل الاستشهاد بليلة اجتمع مع شقيقه وكان يؤمن ما ينقص عائلته من مواد تموينية، وكان دائما يفكر في أبنائه رغم أن العمل كان يشغله عن كل شيء.
3 عقود يحمل الكاميرا
بدأ حسام مسيرته بالتصوير مع شقيقه عز عام 1993 في وكالة رويترز، والأخير بدأ عمله عام 1987 كمسؤول بصحيفة النهار في جنوب غزة، ثم التحق برويترز، يستذكر: "كانت لدينا مؤسسة تصوير وإنتاج فني وإعلامي، ولدينا سيارة مع خمس كاميرات، وكنا نصور الاحتفالات الكبرى. في الـ 96 صورنا بثا مباشرا للانتخابات التشريعية بحضور الرئيس الراحل ياسر عرفات ورئيس كولمبيا".
وأضاف بينما سبقت الابتسامة صوته: "كان حسام صغيرا، وكان يمد الكوابل داخل القاعة، ويمشي على البساط الأحمر كثيرا، ما لفت الحرس الأمني الرئاسي وطلبوا منا أن نقلل حركته، وفي الـ 98 التحق بتلفزيون فلسطين وفي الحرب عمل ع رويترز كمصور متعاون".
لحظة القصف، كان شقيقه يجهز نفسه للخروج من المنزل، لكن صوت الانفجار القريب واتصال من داخل الخيمة أفاد بإصابة شقيقه، وجهه نحو المشفى بسرعة، ليعيش لحظات عصيبة تحضره الآن: "خلال الطريق حدثت الضربة الثانية، وبعد هدوء الغبار، بحثت بقسم العناية عنه ثم بالمشرحة، فتشت بملامح المصابين وجثامين الشهداء فلم أجده، وعاودت بالصعود لسطح المبنى فلم أجده، ثم وجدناه بالطابق الرابع شهيدا".
عن رواية جيش الاحتلال باستهداف شقيقه، يؤكد أن حسام يعمل مع وكالة كبرى وبمجرد بدء التصوير فإن كاميرات الوكالة تعطي إشعارا لجيش الاحتلال ويخرج بعد تنسيق من الوكالة مع الجيش، وخرج في البث بناء على أوامر من المكتب وهذه الأوامر تأتيه بشكل شبه يومي.
ولا يبعد المصري الهدف من الاستهداف عن فشل الاحتلال أمام رواية الصحفيين، الذين استطاعوا إبراز المجاعة، فاعتبر أن كل الصحفيين شاركوا بنشر المجاعة.

