لم يعد السؤال في غزة عن تفاصيل الدمار، ولا عن مشاهد النزوح او وجع الحصار، فهذه صور تكررت حتى بدت وكأنها فقدت قدرتها على احداث الصدمة، لكن السؤال الجوهري الذي تفرضه اللحظة، ما الخيارات الفعلية المتبقية لغزة وشعبها وقواها الحية في ظل التغيرات الاقليمية والعالمية وانسداد افق الحلول التقليدية؟
هناك ميل متزايد، عربيا ودوليا، لاختزال الازمة في غزة باعتبارها "كارثة إنسانية" قابلة للإدارة عبر معونات او ترتيبات امنية جديدة، في تجاهل متعمد لجذور المأساة وابعادها المركبة، هذا الطرح يغفل ان جذور الازمة تعود الى منطق استعماري قديم جديد يقوم على الاخضاع، حيث يصر الاحتلال، مدعوما من قوى الغرب وللأسف بعض الانظمة العربية، على كسر نموذج المقاومة الفريد وتجريد غزة من هويتها النضالية عبر استراتيجية مركبة قوامها الحصار والتجويع، فضلا عن القتل والتدمير الممنهج للبنية المجتمعية والمؤسساتية.
غزة ليست حالة فائضة عن الحاجة، بل هي اختبار حقيقي لقدرة شعب على الدفاع عن روايته وارادة مقاومة تصر على الاستمرار، حتى وان بدت محاصرة ومعزولة عن العالم.
في لحظة كهذه، تظهر اصوات تدعو الى التهدئة او حتى الاستسلام ولكن بذكاء ودهاء، فتغلف ذلك بمنطق "الواقعية السياسية"، لكن اي واقعية هذه؟ وهل هذه الواقعية خارجة عن سياق الاحتلال؟ وهل يمكن لمقاومة ان تقايض كرامتها ووجودها مقابل وعود بإعادة الاعمار او اخرى بفتح المعابر تحت وصاية اقليمية او دولية؟ وبالتالي، فنحن امام مشهد يعيد انتاج الوصاية والهيمنة ولكن بأشكال اكثر قبولا، وكأنها وصفة عالمية للسلام السريع والنجاة الفورية، لكنها نفس المضمون القديم تم تغليفه بشكل "عصري" يوحي بأننا امام شيء مختلف.
اذا نظرنا الى التاريخ القريب والبعيد، سنجد ان حركات المقاومة لا ترفع الراية البيضاء الا اذا انفكت عرى صلتها بحاضنتها، وتحولت الى اداة في يد عدوها، اما في غزة، فلا تزال المقاومة - رغم الاثمان الباهظة - التعبير الاعلى عن ارادة البقاء ورفض الخضوع او الفناء، فجميع تجارب التحرر الوطني عبر التاريخ اجمعت على ان الاستسلام في ظل الاحتلال لا ينتج سلاما ولا يمنح امنا، بل يفتح ابواب الهيمنة بكل اشكالها الثقافية والسياسية والاجتماعية، ويعيد صياغة وعي الاجيال وفق سردية اعدت بعناية من الغزاة او وكلائهم، وقدمت على طبق من المساعدات وبناء القدرات، و"تهذيب" المناهج، ضمن سياسة طويلة الامد من التطويع والاخضاع ونزع القدرة على الاستمرار او البقاء.
المفارقة ان كل من يدعو اليوم الى حلول وسط لا يقدم مسارا بديلا يضمن كرامة الناس ولا حقهم في تقرير مصيرهم، بل يسعى الى تدوير الازمة تحت عناوين براقة تخدم في النهاية هدف الاحتلال في تدجين غزة او تحويلها الى كيان وظيفي منزوع الارادة والسيادة، فالحديث عن نزع سلاح المقاومة او ادخال قوى امنية جديدة ليس سوى اعادة انتاج لاستراتيجيات الاحتلال ولكن بنكهات عربية او غربية تهدف في النهاية الى تحويل القطاع الى مساحة خالية من السياسة والكرامة.
اما عن الخيارات، فبالرغم من التجويع والمقتلة الكبرى، وبرغم التضييق وعمق الانقسامات التي عصفت بالمشروع الوطني الفلسطيني، لم تغلق الابواب بعد، فما زالت هناك امكانية لبناء رؤية فلسطينية جديدة تعيد توحيد الفلسطينيين حول برنامج تحرري يتجاوز الانقسام، ويربط بين المقاومة السياسية والميدانية في غزة والضفة والشتات، ويبرز الحالة الفلسطينية كقضية شعب يواجه الاحتلال وليس فقط ككارثة إنسانية، ومن شان ذلك خلق مساحات ضغط جديدة، وفي هذا السياق يمكن استثمار التحولات الدولية وتصاعد الاصوات الناقدة والناقمة، او تلك الساعية للخروج التدريجي من تحت العباءة الامريكية، او في اعادة بناء التحالفات واستعادة زمام المبادرة على الصعيدين الشعبي والدبلوماسي.
ما تحتاجه غزة اليوم ليس خطابا يبرر او يدعو الى الانكسار، بل عقلا نقديا يوازن بين الصمود في الميدان والجرأة على ابتكار مسارات مواجهة متجددة، فالمستقبل لا يصنعه من ينجر وراء وهم التسويات او شعارات الواقعية الملغّمة، بل من يصر على ان العدالة كل لا يتجزأ، وان الكرامة لا تقايض، وان المقاومة هي قدر الشعوب التي ترفض الاندثار، فغزة اليوم تكتب صفحة جديدة في معركة الارادة، وستظل خياراتها مفتوحة ما دامت جذوة الرفض مشتعلة، ولو وسط الركام.