كانت "آمنة" (28 عاماً)، تغسل ملابس أطفالها في وعاء من الماء أمام خيمتها غرب مدينة غزة، حين شعرت بدوار شديد واختنق نفسها فجأة. حاولت أن تتمسك بحافة الحوض البلاستيكي، لكن ساقيها لم تتحملا ثقل جسدها الهزيل، فسقطت أرضاً وسط دهشة أطفالها الثلاثة الذين لم يعرفوا ما يحدث لأمهم.
يقول زوجها، محمود أبو كرش، (34 عاماً) لصحيفة "فلسطين": "وجدت آمنة مستلقية على الأرض، لا تستجيب، عيناها مفتوحتان لكن نظراتها غائبة.. حملتها وركضت بها إلى النقطة الطبية القريبة، وهم وضعوا لها محلولاً على الفور".
ليست هذه المرة الأولى التي تفقد فيها آمنة وعيها. منذ بدأت المجاعة تطحن سكان غزة في مارس الماضي، تكررت حالات الإغماء لديها، خاصة عندما لا تجد ما تأكله ليوم أو اثنين. كانت في السابق تتحمل الجوع، لكنها اليوم لم تعد قادرة على الوقوف لوقت طويل، أو القيام بمهام منزلية بسيطة.
منذ مطلع شهر مارس الماضي، شدّدت دولة الاحتلال حصارها الخانق على قطاع غزة بشكل غير مسبوق، ومنعت بشكل كامل إدخال المواد الغذائية، وعلى رأسها الطحين (الدقيق) والمواد الأساسية كالزيت والسكر والبقوليات.
هذا الحصار أدّى إلى استنزاف مخازن الغذاء في القطاع، ورفع أسعار السلع المتبقية في السوق إلى مستويات خيالية، إن توفرت. واختفى الطحين من أيدي السكان.
لقد نسى أطفال غزة طعم اللحوم البيضاء أو الحمراء، وأصبحوا يشتهون تناول بيضة أو كوبا من الحليب، فيما آخر مرة توفرت الفواكه بأنواعها المختلفة كان قبل مارس، ولا يتوفر في الأسواق سوى بعض أنواع الخضروات التي لا تزال المزارع المحلية تنتجها ولكن أسعارها باهظة الثمن جدا إذ لا يستطيع معظم سكان القطاع شرائها.
تقول آمنة بصوت خافت وجسدها لا يزال موصولاً بالمحلول الوريدي: "في كل مرة أغيب فيها عن الوعي، أشعر أنني لن أعود.. لا أريد أن أموت أمام أطفالي وهم ينادونني ولا أجيب.. لكن الجوع أقوى مني".
وتؤكد آمنة أنها مثل معظم سكان غزة لم تتناول وجبة كاملة منذ أكثر من أربعة أشهر، وغالباً ما تكتفي بماء الأرز أو بضع ملاعق من العدس المسلوق.
"أعطي كل ما لدي لأطفالي.. لا أستطيع رؤيتهم يتضوّرون من الجوع.. لكنني أنا أيضاً بشر، وقلبي يتعب وجسدي ينهار"، تقول وهي تمسح دمعة سقطت على خدها الهزيل.
محمود، زوجها، يؤكد أن ضعف آمنة الجسدي أثر على حياتهم كلها.
"لم تعد قادرة على العناية بالأطفال، لا تطهو، ولا تنظف، بالكاد تتحرك.. وأنا أحاول أن أبحث عن أي شيء نأكله، أجمع الحطب، أو أستعير بعض الطحين من الجيران.. لكن كلنا فقراء، وكلنا ننتظر الموت ببطء".
في اليوم الذي أغمي فيه على آمنة، لم يكن في خيمتهم أي طعام، سوى نصف رغيف قديم وكمية قليلة من المعكرونة. رفضت أن تأكل وقالت لزوجها: "دعها للأطفال، أنا بخير".
لكن الحقيقة أنها لم تكن بخير. كانت في منتصف انهيار كامل لجسدها الضعيف.
آمنة واحدة من بين آلاف النساء الغزيات اللواتي يسقطن ضحايا المجاعة البطيئة، التي تتفاقم مع كل يوم يغلق فيه الاحتلال المعابر ولا تدخل فيه شاحنات الغذاء.
تقول آمنة: "نحن لا نريد شيئاً كثيراً.. فقط قطعة خبز لأطفالي كي يتوقفوا عن البكاء. إن بكائهم يقطع قلبي باستمرار".
"لم أعد أر شيئاً"
عند الظهر، كانت "هناء الخالدي"، (35 عاماً،) تحاول إعداد الخبز بطحن آخر ما تبقى لديها من الأرز والمعكرونة محاولة توفير الطعام لأطفالها يبقيهم على قيد الحياة ليوم آخر. وبينما كانت تحرك العجينة، شعرت أن الغرفة تدور حولها، وأن الضوء ينطفئ من عينيها.
"أمسكت بطرف الخيمة التي أعيش داخلها بعد أن فقدت منزلي في قصف إسرائيلي، لكن يدي لم تعد تملك القوة.. شعرت أن جسدي يتبخر.. وبعدها لم أعد أذكر شيئاً"، تقول هناء لصحيفة "فلسطين" وهي مستلقية الآن على فراش داخل خيمتها في حي الشيخ رضوان شمال مدينة غزة.
حين أفاقت كانت جارتها فوق رأسها، ترش الماء على وجهها وتردد اسمها. حاولت النهوض لكنها لم تستطع. رأسها ثقيل، وصدرها يئن، وذاكرتها مشوشة.
"لم أكن أعرف أين أنا ولا لماذا الجميع حولي.. كنت مرعوبة.. حسبت أنني متّ ثم عدت"، تضيف وهي تقبض بيديها على قطعة بطانية.
المأساة كما ترويها هناء، ليست فقط في الإغماء نفسه، بل في ما يسبقه من ضعف وفقدان للتركيز والذاكرة، وفي نظرات أطفالها الذين باتوا يخشون أن تموت فجأة.
"ابنتي الصغيرة صارت تبكي كلما أغلقت عيني للحظة.. تظن أنني ذهبت ولن أعود"، تقول بصوت خافت يكشف كم أنهكها الجوع والخوف والبرد في آن واحد.
هناء لم تكن تعاني من أي مرض مزمن قبل الحرب، وكانت قوية البنية تعمل داخل منزلها وتعتني بأطفالها. أما الآن فهي بالكاد تستطيع الوقوف لخمس دقائق دون أن تشعر بالدوخة.
تقول: "كنت أتحمل الجوع في السابق.. الآن لا أحتمل فكرة الطبخ بدون طعام.. حتى الحطب لم يعد موجوداً، وأنا لا أستطيع البحث عنه.. أحياناً أفكر أنني قد لا أستيقظ في المرة القادمة".
"ما أحتاجه هو طبق من الطعام.. شيء يحفظ لي كرامتي وصحتي.. لا أريد أن أكون عبئاً على أطفالي.. أريد فقط أن أعيش كي أراهم يكبرون"- تضيف هناء.
في كل مساء، تجلس قرب أطفالها في الخيمة وتقرأ لهم من ذاكرتها حكاية ما قبل النوم. تقول إنها تنسى بعض التفاصيل أحياناً، فتؤلف نهايات بديلة "الجوع سرق مني ذاكرتي.. لكنه لن يسرق أمومتي.. سأبقى معهم حتى آخر رمق".
"أطفالي أصبحوا هياكل عظمية"
يجلس يوسف الهبيل، (39 عاماً)، إلى جوار تلة من الركام في شارع فرعي غربي مدينة غزة، بعد أن فقد طاقته وأصبحت ساقيه لا تستطيع أن حمله.
"كنت أعمل في إزالة الركام مقابل القليل.. الآن لم أعد أقوى حتى على حمل نفسي"، يقول السبيل لصحيفة "فلسطين" بصوت واهن وهو يمسح العرق عن جبينه المحروق.
الهبيل، أب لسبعة أطفال، اعتاد منذ بداية الحرب أن يجوب مناطق القصف ليجمع الحديد أو ينظف بقايا الخراب مقابل مبلغ بسيط يسد به جوع أطفاله. لكن منذ أسابيع لم يعد جسده قادراً على المواصلة. يقف قليلاً، ثم يسقط على ركبتيه، ثم يعود للجلوس.
"كنت أشتغل لساعات طويلة.. الآن لا أتحمل المشي لعشر دقائق.. معدتي فارغة، وقلبي يتعب بسرعة، ولا أرى بوضوح أحياناً من شدة الدوخة"، يضيف بينما يحدق في يديه المرتجفتين.
وتابع: "أطفالي لم يعودوا يلعبون.. لا يضحكون.. أجسادهم نحيلة وكأن اللحم ذاب عنها.. لم أعد أتحمل النظر إليهم".
يعيش يوسف وأسرته في خيمة صغيرة، ويقضي أغلب يومه في محاولة العثور على شيء يطعمه لأطفاله. أحياناً يحصل على بقايا معكرونة من جيرانهم، وأحياناً لا يجد شيئاً سوى الماء الممزوج برماد الحطب.
"ابني الصغير يبكي كل ليلة ويقول لي بابا أريد كسرة خبز.. وأقسم أنني لا أملك شيئاً.. حتى حفنة طحين لم تبق لدينا"، يروي بنبرة مشبعة بالقهر.
واحدة من بناته، وتدعى آلاء، عمرها سبع سنوات، كانت شديدة النشاط قبل الحرب. تحب القفز والغناء، لكنها اليوم ترقد طوال اليوم دون حركة.
"صارت كأنها عجوز.. عيناها غائرتان وصوتها خافت.. لا تأكل شيئا إلا إذا أجبرناها.. هي جائعة، لكن معدتها لم تعد تتحمل الطعام"، يشرح والدها بحزن.
لم يعد الهبيل يعمل كما كان، فالجوع أفقده قوته، لكنه رغم ذلك يخرج يومياً. لا ليعمل، بل ليبحث عن معونة، عن صديق قديم، عن شيء يمكن أن ينقذ يوم أطفاله.
"أحياناً أضطر أن أطرق أبواب الناس وأطلب أي شيء.. لم أكن أفعلها في حياتي.. لكن الجوع إذلال.. وأنا مذلول كل يوم"، يقول وعيناه تفيضان بالدموع.
رغم كل شيء، لا يزال الهبيل متمسكاً بأمل ضئيل، بأن ينتهي الحصار، وأن تعود شاحنات الغذاء، وأن يملأ بيته رائحة الخبز ذات يوم.
يتحدث الرجل عن أحلامه "أحلم أن أصحو على صوت بناتي يلعبن.. وأن أعد فطوراً حقيقياً فيه زيت وزعتر وخبز ساخن.. وأن أرى طفلي يبتسم دون أن يطلب مني طعاماً لا أملكه".
وأعلنت وزارة الصحة في قطاع غزة عن استشهاد 15 شخصا بينهم أربع أطفال بسبب المجاعة وسوء التغذية خلال 24 ساعة.
وقالت الوزارة، في بيان، إن مستشفيات غزة سجلت 15 حالة وفاة بينهم أربعة أطفال بسبب المجاعة وسوء التغذية في قطاع غزة.
وأضافت أن ذلك يرفع العدد الإجمالي لشهداء المجاعة وسوء التغذية إلى 101 حالة بينهم 80 طفلا، منذ مارس الماضي.
وقالت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، في بيان نشرته على منصة (اكس)، إن سكان قطاع غزة بمن فيهم "زملاؤنا في الأونروا يغمى عليهم من شدة الجوع، أنهم يتعرضون للتجويع".