فلسطين أون لاين

مفاوضات الدوحة على صفيح ملتهب

...
مفاوضات الدوحة على صفيح ملتهب
د. باسم القاسم

تعيش مفاوضات التهدئة الجارية في الدوحة حالةً من التقلّب والتوتّر، تعكس تعقيدات المشهد السياسي والعسكري في غزة، وسط ضغوط أميركية، وتلكؤ إسرائيلي، وإصرار فلسطيني على ضمانات واضحة. فاللقاءات المكوكية بين واشنطن وتل أبيب والدوحة، وإنْ أحرزت تقدماً شكلياً، إلا أنها لم تحسم جوهر النزاع المرتبط بمصير الحرب والانسحاب من غزة، وهو ما يجعل التهدئة المحتملة أقرب إلى التجميد المؤقت للنار من كونها اتفاقاً سياسياً دائماً.

منذ أسابيع، تضغط إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإبرام اتفاق هدنة، تسوّقه على أنه "إنجاز سياسي" في عام انتخابي حاسم. لكن المفاوضات الجارية ما تزال تفتقر إلى الأساس الصلب؛ إذ إن الوعود الأميركية للفصائل الفلسطينية تظل شفهية وغير مكتوبة، ما يضعف أي التزام دولي ويُبقي التفاهمات عرضة للانهيار عند أول انتكاسة ميدانية أو مناورة إسرائيلية. وهذا ما دفع مصادر مصرية إلى التحذير من هشاشة الاتفاق، ما لم يُترجم إلى ضمانات ملموسة، تضمن وقفاً فعلياً ومستداماً لإطلاق النار، لا مجرد هدنة مؤقتة محكومة بالحسابات التكتيكية.

في المقابل، لا تزال "إسرائيل" تراوغ في تقديم خريطة طريق واضحة لإنهاء الحرب. فرغم التعديلات التي أدخلتها على خرائط الانسحاب، والتي جاءت بعد رفض أميركي وقطري لخطة الانسحاب الأولى، إلا أن هذه التعديلات لم تحسم بعد قضية "محور موراغ"، وهي منطقة استراتيجية تفصل جنوب القطاع عن وسطه، وتُعدّ من وجهة نظر تل أبيب حاجزاً أمنياً أساسياً لمنع تهريب الأسلحة. ومع ذلك، تصرّ حركة "حماس" على انسحاب إسرائيلي كامل من هذا المحور، في مسعى لإعادة التموضع داخل رفح وتثبيت حضورها الميداني.

وتأتي هذه المعركة التفاوضية في ظلّ معادلات داخلية معقّدة يعيشها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي يُحاصر داخلياً من اليمين المتطرف الرافض لأي تنازل، ويُواجه في الوقت نفسه ضغوطاً أمريكية للتوصل إلى اتفاق، مع ارتفاع منسوب الغضب والتململ داخل الشارع الإسرائيلي جراء ضربات المقاومة وعملياتها النوعية، التي تستمر في تعميق المأزق الإسرائيلي وإضعاف إمكانية الحسم العسكري والاحتلال الشامل للقطاع. وفي هذا السياق، كشفت مصادر عبرية عن اجتماع ثلاثي في الدوحة، ضم مسؤولين إسرائيليين وأميركيين وقطريين، وصفته بـ"المتوتر"، بعدما هدد القطريون بانهيار المحادثات، في حال استمرت تل أبيب بالمماطلة.

أما من الجانب الأميركي، فتبدو إدارة ترامب حريصة على تسويق أي اختراق في المفاوضات، ولو كان شكلياً، خاصة أنها تُدرك أن صبر الحلفاء الإقليميين آخذ في النفاد، بينما تتزايد الضغوط الداخلية نتيجة تعثّر المفاوضات وتفاقم الوضع الإنساني في غزة. ويظهر ذلك في الدعوة التي وجّهها البيت الأبيض لعائلات الأسرى الإسرائيليين، والتي جاءت على خلفية تنامي السخط الشعبي في "إسرائيل" حيال إخفاق الحكومة في حسم الحرب أو إعادة الأسرى.

اللافت للنظر في هذه الجولة من المفاوضات هو محاولة "إسرائيل" طرح مشاريع سياسية وأمنية، تتجاوز وقف إطلاق النار، وتستهدف تقويض حكم "حماس" في غزة. فخطة تل أبيب الجديدة تتضمن إقامة "منطقة إنسانية" في رفح، ونقاط تفتيش لمراقبة حركة السكان، وتوزيع مساعدات بمعزل عن الآليات أو القنوات الأخرى كالأونروا أو المظمات الدولية أو الجهات المحلية. كما تهدف إلى إنشاء "منطقة خضراء" تُسوَّق باعتبارها آمنة، في محاولة لإيجاد واقع بديل داخل القطاع، وهو ما يشي بأن "إسرائيل" ترى في التهدئة فرصة لإعادة تشكيل الخارطة السياسية في غزة، لا مجرد خطوة نحو التسوية الدائمة.

رغم هذه المحاولات، فإن المشهد ما يزال يراوح مكانه. فـ"إسرائيل" لا تملك رفاهية الاستمرار في حرب استنزاف طويلة، وحركة حماس تدرك أن أي تهدئة من دون انسحاب شامل سيُعد فشلاً استراتيجياً قد يتم تسويقه كهزيمة سياسية وميدانية، بينما واشنطن تسعى لتسجيل "إنجاز" سريع، دون الدخول في تعقيدات الصراع الطويل.

في المحصلة، يبدو أن مفاوضات الدوحة مرشحة للاستمرار، وربما التصعيد، ما لم تُترجم التعهدات إلى اتفاق مكتوب، بضمانات دولية وإقليمية. فخلاف ذلك، ستظل الهدنة مجرّد فاصل هشّ بين جولتين من نار.

المصدر / فلسطين أون لاين