غمرهما الحب في لحظات دافئة، انتزعاها تحت الحرب. تبادلا كعصفورين ألحان السعادة بزواجهما المنتظر، ليتوج هو "بطولات" الحصول عليها كأنه حقق انتصارات الدنيا كلها، لكن في ثانية واحدة سمعت العروس المكلومة آخر كلماته، متأوها: "أي.. أي".
طوال طريقهما المحفوف بالمخاطر إلى إحدى الاستراحات على شاطئ بحر غزة، كان الشاب نسيم أبو صبحة يقبض على يد خطيبته علا عبد ربه بشدة، يقول لها: "يجب ألا نكترث ولا نخاف طالما نحن معا نموت سويا".
كانا يودان لو سمعا صوت أمواج البحر فقط، وأن ينعزلا ولو قليلا عن تفاصيل حرب الإبادة الجماعية الموجعة، وأن يجمدا لوهلة آلامهما الثقيلة، ليسعفا مشاعرهما الجريحة بالفقد، وانعدام مقومات الحياة، والتجويع والتعطيش.
علا (22 عاما)، التي فجعت قبل أشهر باستشهاد والدتها وعدد من إخوتها بعد انقطاع الاتصال بهم لـ50 يوما وهم ينزحون قسرا من مكان لآخر في أقصى شمال قطاع غزة، جمعها القدر بنسيم، الذي رأت فيها بلسما لجراحها.
تفتح علا "صندوق مذكراتها" لـ "فلسطين أون لاين"، موضحة أنها تدرس العام الأكاديمي الأخير في اختصاص الهندسة الكهربائية، وعرفت نسيم المتخصص في هندسة الشبكات لأول مرة في دورة تصميم مواقع بحاضنة الأعمال والتكنولوجيا (Bti)، كشاب مميز باجتهاده وعلمه وأخلاقه الحميدة.
في فبراير/شباط، واجه نسيم واقع الحرب الطويلة على غزة، وتقدم لخطبة علا، التي تصفه بأنه "كريم المشاعر"، وتعاظم إعجابها به مع مرور الوقت، والمواقف.
"عندما يزورني، لا يدعني أفعل شيئا بمفردي، يساعدني في كل شيء، بابتسامته الدائمة، وشعور الفرح الذي يضفيه بلعبه مع إخوتي الصغار"، تقول علا.
كان يوم 30 يونيو/حزيران سريعا ومليئا بالضحك، لكن ثمة شعور لحظي بالخطر انتاب علا، عندما قررا الذهاب لاستراحة الباقة، التي اعتادا التوجه إليها، لانتزاع لحظات من السكينة، ورغم ذلك استبعدت قصف تلك الاستراحة البحرية.
في جلساتهما هناك، كان نسيم يحدثها عن تطلعاته للسفر معها، ورفضه السفر مع وفد للعمل في التصميم والمونتاج إلا برفقتها بعد زواجهما، وقد أنهمكا في دراسة الموضوع والنتائج المترتبة عليه.
على شاطئ البحر، كانا يخططان لزواجهما بعد شهر من انتهاء الحرب، ويتطلعان لأن يتوافق ذلك مع ذكرى ميلادهما وتخرجها من الجامعة، وكانا يحلمان كيف سيكون وجه حياتهما مشرقا.
في المرة الخامسة والأخيرة لهما في تلك الاستراحة البحرية، كان نسيم يجلس بجوارها، رفع الهاتف ووثقا لحظاتهما وهو يكاد يرفرف من الفرحة، ويخبرها عن جمال الصور، فهو يبحث دائما عما هو مميز ليقدمه لها.
بدأت علا ونسيم بتناول ما توفر من قطع البسكويت والقهوة والفلافل وسط مجاعة تضرب القطاع، وكان الوقت يمضي مسرعًا كالعادة وقائمة الأحاديث المخزنة لا تجد متسعًا من الوقت كي تروى ولو جلسا دهرين، فتارة يخبرها عن السفر سويا وأخرى كم يود لو أن والدتها كانت لتراه، ومرة عن أصدقاءه.
وفيما يتبقى من الحديث، يروي لها بطولته في الحصول عليها وكأنه حقق انتصارات الدنيا أجمع، يقبض على يديها بشدة وإذا اضطرهما الأمر للحديث عن الموت يخبرها ألا يكترثا ولا يخافا طالما أنهما معا يموتان سويا.
"كان بدرا بل أجمل.."
فجأة سمعت علا صوت انفجار. حينها تأوه نسيم، قائلا: "أي أي". سقطا أرضا، ووجدت علا قدمها تنزف، ربطتها بشرشف الطاولة، وقالت لنسيم: "أمانة.. هي راسك ما في شي أمانة ضلك عايش".
نظرت إليه، كان النزيف بالغا من ظهره، لكنها تلاحق الأمل بأن يكون قد فقد الوعي فحسب.
نقل نسيم إلى الإسعاف وأصبحت هي تمشي بصعوبة، لا تعلم كيف؟ وجزء من أوتار قدمها مقطوعة، وصلت إلى المشفى بالإسعاف التالي له.
جلست علا على الكرسي، بدؤوا بإجراءات علاجها وأبوها حولها تثقله الدموع، وهي تسأله: "يابا نسيم كويس؟ نسيم بخير؟ أمانة احكيلي؟"، فيرد عليها: "ما بعرف، في العناية الآن، ممنوع نعرف"، والكل يهمس من حولها.
بعد ساعات من علاجها جزئيا، حملوها بالكرسي خارجا، وهناك رأت ابنة خالها، تربت على كتفيها، سألتها علا: "استشهد صح؟"، فأجابت: "اه هينا جبنالك ياه لعندك تشوفيه".
تحاول علا التقاط أنفاسها، قائلة: "كان بدرًا بل أجمل".
كان نسيم أحد ضحايا مجزرة مروعة ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي، عندما استهدفت طائراته الحربية يومها الاستراحة البحرية، ما أسفر عن عشرات الشهداء والجرحى.
مر 11 يوما ثقيلة على علا، لم تفارقها فيها صوره وكلماته وصوته في مسمعها، لكن أكثر ما يتكرر ببالها ويوجع قلبها، هو اللحظة التي سمعته فيها يقول "أي أي"، قبل أن يستشهد مباشرة.
ولا تزال تتردد في أذنيها أناشيده التي اعتادت سماعها بصوته الجميل، وآخرها ما أنشده وكأنه وصية لها، تطبطب على قلبها:
"فاصبري لو نال منا الظالمون لن نحيد.. واسندي القلب المعنّى نبلغ المجد التليد.. فيك همت يا حياتي فيك ألقى راحتي.. أنت إحساسي بذاتي زوجتي وحبيبتي.. أنت قدسي وكياني أنت وجداني الكبير.. أنت شطري وأماني أنت إيماني أنت نور".
تكابد علا اليوم تداعيات إصابتها، وقد خضعت لعملية طبية لربط أوتار القدم، لكن ما يوجعها أكثر هو احتراق قلبها: "البحر الآن صار مرتبط بذكراه.. خايفة أزوره رح أتوجع".
لكن لو كان نسيم يسمعها الآن، فستطمئنه عليها حتى لا يمسه الحزن لأمرها: "مبارك الشهادة، ما تخاف علي، رح أحاول أنتبه على حالي، رح أنتظرك لحد ما نلتقي إن شاء الله".