قائمة الموقع

من الصدمة إلى الخيانة.. خريطة الاحتلال لاختراق النفوس

2025-07-10T15:00:00+03:00
من الصدمة إلى الخيانة.. خريطة الاحتلال لاختراق النفوس
فلسطين أون لاين

في ساحات الحرب، لا يُقاس الخطر فقط بما تنقله شاشات الأخبار من صواريخ وقذائف، بل بما لا يُرى: تلك الحرب الصامتة التي تُشنّ على النفوس، حيث يستثمر العدو في لحظة الانكسار، لاختراق الإنسان من داخله، وتحويله – تدريجيًا – إلى أداة ضد مجتمعه دون أن يشعر.

فالاحتلال الإسرائيلي لم يكن يومًا مجرد آلة قمع عسكرية، بل مؤسسة استعمارية تحترف إدارة العقول والتأثير في القناعات، وتعمل منذ عقود على تطوير وسائل إسقاط الأفراد أمنيًا، مستغلة هشاشة الواقع، وغياب التماسك النفسي، خاصة في أوقات الحرب.

أكثر ما يُقلقني في الحروب الأخيرة، ليس فقط عدد الضحايا، بل عدد أولئك الذين ينجون من الموت، ولكنهم يخرجون منها فاقدين للثقة، مشوّهين داخليًا، ومفتوحي الأبواب أمام الخداع.

هنا تبدأ رحلة "الاحتلال النفسي" التي تمهّد لطريق الخيانة:

1. الصدمة النفسية كبوابة أولى

في لحظة الانفجار، حين يضيع البيت، أو يُقتل القريب، أو يتكرر العجز، يصبح الإنسان مُثقلًا بأسئلة لا أجوبة لها.
ومع غياب الاحتواء والدعم، تتحول الصدمة إلى هشاشة، والهشاشة إلى قابلية للاختراق. هذه النقطة هي التي يراهن عليها الاحتلال: الإنسان الذي لم يعد يجد في واقعه شيئًا يستحق الثبات.

2. الحاجة كفخ قابل للغرس:

حين تُغلق الأبواب، وتغيب الخدمات، ويُصبح الدواء عملة نادرة، يتسلل العدو تحت عباءة المساعدة. لا يطلب شيئًا في البداية، فقط يريد "معرفة الحقيقة"، "أخذ رأيك"، "التأكد من معلومة"... ثم يبدأ السعر يرتفع. وكل مرة يكون الثمن أقسى: خيانة، مقابل علاج أمّ، أو تصريح سفر، أو حتى وجبة طعام.

3. تفكيك البوصلة الأخلاقية:

الاحتلال يدرك أن الحرب تُربك التصنيفات، فحين تتراكم الأزمات، تبدأ أسئلة الشك: من الملام؟ لماذا ندفع الثمن؟ هل الخلاص مستحيل؟ وهنا يتدخل بخطابه الناعم: "نحن لا نستهدف الأبرياء"، "قيادتكم خانتكم"، "أنتم تستحقون الحياة". هذا الخطاب لا يحتاج إلى اقتناع كامل، بل يكفيه أن يُضعف ثقتك في الرموز، ليبني ثقته كبديل.

4. تسفيه المقاومة وتطبيع الخنوع:

من أخطر مراحل الاختراق، حين يُعاد تعريف الصمود على أنه "غباء"، والشهادة على أنها "خسارة مجانية"، والتمسّك بالثوابت على أنه "تشدد". هنا يبدأ الفرد في تكرار رواية العدو دون أن يشعر، ويصبح حاملًا لخطاب الانكسار وهو يظن نفسه حياديًا.

5. من السلوك إلى السقوط:

الخيانة لا تبدأ بقرار واعٍ، بل بسلسلة اختيارات صغيرة، تُبرَّر كلٌّ منها بظرف استثنائي. يختبر الاحتلال المرشحين خطوة خطوة: هل ستُجيب على السؤال؟ هل ستُسلّم رقمًا؟ هل سترشد إلى مكان؟... حتى تُصبح في لحظة ما داخل الدائرة، ويُقال لك ببرود: "أنت معنا منذ زمن، نحن فقط نُديرك الآن".

لكن، كيف نحمي أنفسنا من هذا الانحدار التدريجي؟

الوقاية تبدأ بالوعي. ليس وعي الخطر فقط، بل وعي الذات أيضًا. أن تعرف أنك في لحظة ضعف، وأن الاحتلال لا يرحم هذه اللحظة، بل يبني عليها. ثم يأتي الدعم المجتمعي: أن لا نترك المصدومين وحدهم، وأن لا نُجرّم من يُخطئ الطريق، بل نعيده ونحميه. فالمجتمع الذي يُعاقب الجريح بدلًا من مداواته، يقدّمه للعدو دون أن يدري.

وفي النهاية، لا يُطلب من الناس أن يكونوا أبطالًا خارقين، بل أن يبقوا متماسكين في إنسانيتهم. أن يعرفوا أن الثبات ليس فقط بندقية في اليد، بل وعيًا في الرأس، وضوءًا في القلب، وشبكة أمان حول الفرد، كي لا يسقط وحيدًا في ظلام الخيانة.

في زمن الحرب، المقاومة لا تبدأ من الخندق، بل من داخل النفس.

ومن لم يستطع أن يُقاتل، فعلى الأقل ألّا يُقاتَل من خلاله.

اخبار ذات صلة