فلسطين أون لاين

جدلية اللا رغبة أو اللا قدرة !

...
عبد الله أمين

سنبدأ في هذا المقال من حيث انتهى "فينوغراد" في تحقيقه حول الإخفاق الذي أصاب جيش العدو في حربه أمام المقاومة الإسلامية "حزب الله " في لبنان عام 2006 ، حيث وفي أهم خلاصاته للحرب قال الرجل ولجنته ما مضمونه: " لقد عانى الجيش أثناء حربه من مشاكل رئيسية على المستوى الاستراتيجي والعملياتي والتكتيكي، كما أنه واجه مشاكل بنيوية فيما يخص المعلومات وإدارة العمليات، ومعرفة العدو، مما أدى إلى النتيجة التي شاهدناها". ثم ختم هذا الجزء من حديثه قائلاً: "إن جوانب القصور والضعف هذه، رافقتنا في حروبنا كلها، منذ (الاستقلال) عام 1948 مروراً بـــ بالحروب في 1968 و 1973 و 1982، والتي خرجت على أثرها قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان. ولكن في كل الحروب تلك، ومع كل نقاط الضعف المشار لها، كان النصر حليفنا! فما الذي تغير هذه المرة، فلم يحالفنا الحظ؟ نكتفي بهذا القدر من نقل القول وبتصرف مما جاء في تحقيق لجنة " فينوغراد".

إن الدول والجيوش لا تدخل الحروب، ولا تبدأ الصراعات مالم تكن هناك مبررات تبررها، ومقدمات تسبقها، وظروف تحمل على أخذ قرارها وترافقه، ومن أهم هذا الظروف؛ أن يكون لدى صاحب القرار تقديراً مناسباً حول سيرها، وطي مراحلها، والقدرة على تحقيق أهدافها، في أسرع وقت وأقل الأكلاف، وهنا تجدر الإشارة إلى أن أهداف الحرب لا يتم وضعها وفقاً للرغبات، وإنما بناء على القدرات والإمكانات المتوفرة لتحقيق هذه الأهداف، كما أن من الشروط التي تساعد في أخذ قرار الحرب، فضلاً تقدير تحقيق أهدافها؛ سرعة حسمها، ومنعها من أن تدخل في حالة استنزاف تقضي على مقدرات الدولة، وتؤثر في مسار حيوات أهلها، كما يخضع قرارها في نهايته لمعادلة الجدوى والأكلاف، فالحرب لا تُخاض ولا تشن، إن كانت أكلافها أعلى بكثير من جدواها؛ ما لم تكن حربَ وجودٍ لا مفر منها.
وحيث أن الدول في مسار بحثها عن مصالحها الحيوية، والدفاع عنها، تلجأ إلى كثير من الوسائل وطرق العمل، والتي تبدأ بالعمل السياسي والدبلوماسي، ولا تنتهي بالحرب والنار؛ لذلك تعمد ــ الدول ــ إلى وضع مسار لبناء القدرات وامتلاكها، بما يساعدها في تحقيق مصالحها الحيوية والدفاع عنها. وهنا يعتقد البعض أن القدرة المملوكة، لا مُقيد لها، ولا مُحددات لتشغيلها! وهنا تقع المفارقة، ويخطئ المُقدر والتقدير، حيث لا يعني امتلاك القدرة بمختلف صنوفها؛ القدرة على تشغيلها بكامل طاقتها، لذلك يقال: أن ما هو أهم من امتلاك القدرات؛ القدرة على تشغيل هذه القدرات والاستفادة منها عند الحاجة. ومما يُقيد إمكانية تشغيل القدرات بكامل طاقتها، ويحد من حرية استخدامها، أمور كثيرة من قبيل: المحددات الشرعية، أو السياسية، أو التعبوية، أو الجغرافية، أو البشرية والفنية أو ... .

وفي الحروب؛ ليس هناك من أحد يأخذ قرارها وهو لا يريد النصر والحسم فيها، أو لا يريد السيطرة على عدوه وإخضاع إرادته له، كما أنه ليس هناك من دولة تبدأ حرباً وهي تريد أن يطول زمنها، أو أن يتوسع نطاقها الجغرافي، فالجيوش تسعى إلى تحقق أهدفها في أسرع وقت، وبأقل الأكلاف، وفي أضيق النطاقات الجغرافية، خوفاً من الدخول في موقف تُستنزف فيه القدرات والإمكانات، كما أن الوحدات السياسية تحرص أن تبقي جبهتها الداخلية بعيدة عن أضرار الحرب؛ فهدوء عقبة القوات، من النقاط الحاسمة في حسن سير المعركة والتحكم في مواقفها التعبوية، ومراحل سيرها الزمنية.

فإذا كان موقف الحرب، وقرارها، وطرق إدارتها، والأسباب المحرضة عليها، على ما قيل، وأن الدول لا ترغب في خوض الحروب الطويلة والاستنزافية، وأن معيار النصر فيها هو القدرة على اخضاع العدو، وسلبه روح المقاومة، وإرادة القتال، وإذا كانت رغبة من يبدأ بالحرب أن ينتصر فيها، ويحقق أهدافه منها في أقصر وقت، وأقل أكلاف، فما الذي يجعلها تتمدد زماناً ومكاناً وتدخل في حالة من المراوحة، وعدم القدرة على الحسم؟ هذا سؤال.

 أما السؤال الثاني المفصلي في هذا المقام فهو: هل أن الدول لا ترغب في النصر والحسم؟ أم أنها لا تقدر، و/ أو أن هناك ما يُقيد قدرتها على الحسم والنصر؟ بغض النظر عن سبب عدم القدرة هذه والمُقيدات تلك.

إن الإجابة على هذين السؤالين هو المحرك الذي يقف خلف كتابة هذه المقالة، كما أن ما يصاحب الإجابة عليها هو الدافع الآخر؛ حيث يُكثر المثبطون، والمُخذّلون المُتخاذلون، فضلاً عن العدو نفسه من الحديث عن سبب إطالة زمن حربه، مبرراً ذلك بأنه لم يُرد الحسم! وأنه لم يستخدم كامل قدراته! وأن تدخل الوسطاء حال دون سحق الخصم! وأن عدوه (يتلطى) بالمدنيين ويتخذ منهم دروعاً يتقى بها بأس قوته! وأنه، وأنه ... . ويبدأ (ذباب) العدو البشري والإلكتروني في الترويج لهذه السردية (المايعة)، التي لا تأتي على ذكر مقاومة المقاومين، أو صلابة المدافعين، وكأن الحرب كانت من طرف واحد يصب ناراً، ويهدم دياراً، يعني (بليستيشن)، ولا مقاومة تقاومه، ولا مقاومون سهروا ويسهرون الليالي في بناء قدرات، وصقل ومراكمة خبرات، حتى إذا حانت ساعة الحرب، شَخصوا لعدوهم، متسلحين بكثير من اليقين بنصر الله، وبما أعدوا لعدوهم من عدة، مستنصرين بمن بيده ملكوك كل شيء، فيرمون برميه، ويُصوبون على أهدافهم بمعيته، منتظرين نصره، حيث لا نصر إلّا من عنده سبحانه.

نعود إلى خلاصة " فينوغراد" وسؤاله الذي سأله عن سبب عدم الإخفاق في كل حروبه التي سبقت تموز 2006، واخفاقهم في حربهم عام 2006 حيث قال صادقاً، وهو الكذوب: "أنه في حروبنا السابقة لم نواجه قوماً ــ طبعاً في المجموع وليس على صعيد الأفراد ـــ يريدون أن يقاتلوا! أما في حربنا هذه؛ فقد واجهنا أناس يريدون القتال، واستعدوا وأعدوا له".

إن هذه الخلاصة هي التي جعلت جيشه في حروبه على غزة منذ 2008 وحتى 2023، حروباً طويلة الأجل، وليس أن جيشه لم يرغب في الحسم! وإنما لم يقدر على النصر، وأجبر على الدخول في حروب طال زمنها، وكثرة خسائرها، كما أنه أجبر ويجبر تحت ضغط المقاومين والمجاهدين، وما يلحقونه بجيشهم وكيانهم المؤقت من خسائر، أجبروا، ويجبرون، وسيجبرون على التراجع. لقد انسحب العدو من جنوب لبنان عام 2000 ليس منّة منه ولا كرم أخلاق، وإنما نتيجة 2346 عملية قام بها "حزب الله " في عام 1999 فقط، موقعاً 69 قتيل في صفوف جيشه، و104 قتيل في صفوف جيش لحد. كما أجبر على الانسحاب من غزة عام 2005 لأن غزة؛ أهلها ومقاوموها أصبحوا ( وجع) رأس له ولمغتصبيه، فانسحب مؤثراً السلامة. وهو في باقي حروبه التي شنها على غزة، مع كل ما ألحقه بها من دمار، إلّا أنه يواجه برجال ومقاومون يلحقون به خسائر، تجبره على التراجع، وتفرض عليه شروطاً، وتمنعه من تحقيق أهدافه. ليس كما يُردد بعض المهزومين، خائري الهمم والعزائم، من أن العدو لا يريد أن يحسم! أو أنه مُقيد بقيد يحول دونه واستخدام قدراته بكامل طاقتها؛ لذلك يحقق المجاهدون فيه إصابات، ويلحقون به خسائر. لا يا كرام، إن العدو استخدم، ويستخدم كامل طاقة قدرته، ويرغب في الحسم، ويريد النصر، ولكن (العتمة ما أجت على قد يد الحرامي)، حيث شخص له رجالٌ يحبون الموت ويحرصون عليه، حرصه على حياة، فاستعدوا وأعدوا بما استطاعوا، ثم وكّلوا أمرهم لربهم، فانتصروا، وسينتصرون؛ فالقوي مهزومٌ إذا لم يحقق أهدافه، والضعيف منتصرٌ إن صمد أمام عدوه، ومنعه من بلوغ غاياته.

في الخلاصة، وفي إجابة على سؤال الرغبة والقدرة، نقول وبمليء الفيه: إن عدونا: مُريدٌ، راغبٌ، ساعٍ، لكنه ليس بقادر! لأن في المواجهة رجالٌ، قيل فيهم أنهم إذا أردوا؛ أراد الله . والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

المصدر / فلسطين أون لاين