عندما تنفس الصبح، ضاق صدر الخمسيني عمران غبن بمهمة شاقة يجبر عليها يوميا: جمع قطع البلاستيك والنايلون لإيقاد النار بديلا عن الغاز، في خيمته التي تقطن فيها عائلة ممتدة من أربع أسر.
أثقلت تلك المهمة كاهله، ونقشت على ظهره انحناءة مبكرة، لكنها ليست سوى هم واحد من مجموعة أعباء تلاحقه وعائلته التي تتقلب في نار الفقد والنزوح القسري والتجويع كل يوم، في خضم حرب الإبادة الجماعية المستمرة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وأجبرت الحرب معظم أهالي القطاع على النزوح القسري المتكرر، تحت القصف، وفي ظل انعدام مقومات العيش.
كان غبن، الذي نزح قسرا من بيت لاهيا شمال قطاع غزة، يعمل مع أبنائه الثلاثة قبل الحرب في مجال الزراعة مقابل 20-30 شيقلا يوميا لكل منهم، لكنهم فقدوا منذ بداية الحرب أعمالهم وباتوا بلا مصدر دخل. وفضلا عن ذلك، أصاب الاحتلال أحدهم وأسر آخر.
"لا قادرين نشتري حطب ولا حاجة، النا سنة و8 شهور بنعاني من نزوح لنزوح... أنا وأولادي ولا واحد فينا موظف، ايش بدنا نشتغل؟". قفزت الأوجاع من نبرة غبن في حديثه مع "فلسطين أون لاين".
بعد جمع النايلون والبلاستيك، يستجمع قواه لخوض معركة البحث عن مياه الغسل والشرب، إما من إحدى المؤسسات التي يتطلب الحصول على الماء من خلالها إلى الاصطفاف في طابور طويل لساعتين وأكثر، أو من خلال شاحنات تمر أحيانا، لكنه يعود في بعض الأوقات خالي الوفاض.
"اليوم من الصبح رحت أنا وابني على الفاضي، وقفنا نص ساعة لا اجى شحن ولا الماتور (التابع للمؤسسة) شغال"، يقول غبن بأسى.
في هذا الواقع المرير، يفرض شح المياه نفسه على أفراد العائلة، ويتحكم في سلوكياتهم اليومية، من دورية الاستحمام إلى عدد قطرات الماء التي سيحظى بها كل منهم.
في هذه الأثناء، يكون الجوع قد قرص بطنه وأفراد عائلته وسط شح الغذاء، بسبب منع الاحتلال دخول المساعدات الإنسانية لغزة منذ الثاني من مارس/آذار.
يكون طعامه وعائلته مرهونا بإذا ما كان سيحصل على شيء من البقوليات المطبوخة حال توفره من التكيات، أو بمدى توفر بعض المال لشراء كيلوغرام واحد من الدقيق باهظ الثمن لتوزيع لقيمات الخبز على أربعة أسر.
لكن حتى التكيات غيبها اشتداد الحصار، في وقت لا يملك غبن مالا لمواكبة ارتفاع أسعار السلع الأساسية الشحيحة كالدقيق، مع نفاد ما كان يحتفظ به من أرز أو عدس.
في نهاية المطاف، يستسلم غبن وعائلته للجوع في كثير من الأحيان، حالهم كحال الغزيين المجوعين.
متوسطا عائلته في خيمة يدوية، أقامها على مقربة من أنقاض مسجد مدمر وسط مدينة غزة، يقول غبن الذي يتصبب عرقا ساعة الظهيرة: نزحنا قسرا حوالي 20 مرة في شمال القطاع.
وفي بداية حرب الإبادة، دمر الاحتلال منزل غبن، ليبدأ منذ ذلك الوقت محطات نزوح قسري لا نهاية لها.
ويعاني الرجل من أمراض مزمنة، أبرزها السكر والضغط كما يعاني من الغضروف.
دوامة يومية
على هامش الخيمة المهترئة، تمد زوجته اعتماد غبن حبلا لنشر الملابس بعد غسلها يدويا في جردل، بعدما حظيت أخيرا ببعض الماء.
يطل حبل الغسيل المذكور الذي لا يتجاوز طوله مترا ونصف المتر، على أطلال المسجد المدمر، حيث تعيش العائلة المقهورة بين الركام.

تبدأ رحلة اعتماد مبكرا، بتفريغ جالونات المياه تماما لمحاولة تعبئتها مجددا، قبل أن توقد النار من خلال قطع البلاستيك والنايلون التي جمعها زوجها.
تصمت اعتماد لوهلة قبل أن تندفع بالحديث: "بولع النار مش عشان أطبخ... مفش لا طبخة ولا نفخة! عندي حفيدين بيشربوا الحليب، بغلي الهم المية".
تصارع الجدة يوميا من أجل البقاء، وتحاول الحصول على ما أمكن من شوربة العدس وما شابهها من تكيات شحيحة تحضر أحيانا لبعض المخيمات، التي لا تعيش هي فيها، لكنها تلجأ إليها مع انعدام الخيارات.
بعد هذه المهام الشاقة، تقضي اعتماد بقية يومها على باب الخيمة المطلة على شارع عام، ثم تعود إليها حيث ينغص عليها الحياة أيضا، وجود الفئران التي "عضت" ذات ليلة أصبع "كنتها".
بكلمات من وجع، تشرح أحد جوانب العيش في خيمة: "الدنيا حر، بنعرفش ننام بالمرة، مفش إلا فترة الليل وبتيجي فيها البعوضة... لا مخلية صغير ولا كبير، كأننا نايمين في كابوس، أو دوامة... راسي بيجعني 24 ساعة".
أسيرة الحزن
بينما ينهش القهر الجميع، يشير غبن بيديه إلى زوجة ابنه الأوسط التي تعيش معهم في الخيمة ذاتها، قائلا: "هذه زوجة ابني وهو أسير أخدوه (المحتلين)".
تتساقط من كلماته آلام لا تحتملها الجبال، وهو يروي حكاية هذه السيدة العشرينية التي اختطف الاحتلال شريك عمرها، وأبا طفلها.
تحتضن الأم شيماء غبن طفلها الذي لم يتجاوز العام بعد، وتعيش يوميا تفاصيل المعاناة نفسها، لكن أكثر سوءا.
مغلوبة على أمرها، تقول شيماء: "برضع ابني (إن توفر الحليب بسبب قلة الغذاء)، وبضل قاعدة على الشارع بقية الوقت، ولا بروح ولا باجي".

أما الاستثناء الوحيد، فيكون لجلب ما يشبه الطعام من التكية إن توفر، أو جالون من المياه وغسل ملابس طفلها.
وحتى زوجها الأسير، تتمزق مشاعرها ويأكلها خوفها عليه، دون أن تعلم عنه شيئا منذ ثلاثة أشهر، وكانت المرة الأخيرة التي وصلها فيها سلامه مع أحد المحررين فقط.
هكذا تنتزع منها الحرب الحق في حياة كريمة وآمنة مع زوجها، وتحرم طفلها أباه في ذروة الاحتياج، لتبقى هي أسيرة حزنها.
مسنة تصارع القهر
على باب الخيمة، تجلس السبعينية خضرة غبن، والدة عمران، مثقلة بأوجاعها وأمراضها وبؤسها.
منذ بداية الحرب، تحملت خضرة ما يفوق طاقتها، من النزوح القسري والتشرد والفقد والخوف، في وقت هي أحوج ما تكون فيه للأمان، وليد ترحم ضعفها.
وفي المرة الأخيرة، دفعها حفيدها بكرسيها المتحرك مشيا من بيت لاهيا إلى وسط مدينة غزة تحت النار.

تتساقط دموعها بلا توقف، كأنها أنهار تجري أو بركان ينفجر. فقدت هذه المسنة أحد أبنائها شهيدا، واثنين آخرين أسيرين، والرابع مصابا بحالة الخطر، وثلاثة من أحفادها أسرى، كما توفي زوجها (75 عاما) متأثرا بحزنه على نجله الشهيد.
تجد خضرة نفسها فريسة لمختلف أنواع العذاب، في خيمة لا تقيها حتى أشعة الشمس اللاهبة، أو قرصات البعوض وأنواع الحشرات والقوارض الأخرى.
عن حياتها اليومية، تقول خضرة وهي تحاول كفكفة دموعها وتصارع قهرها: "والله قعدتنا ما هي مريحة تعبانة والله .. جابني ابن ابني من بيت لاهيا لهنا مشي على الكروسة.. مفش حتى مواصلات".
فواجع مركبة
في الخيمة، تنصرف أنظار الجميع إلى صرخة رضيع ولد قبل 10 أيام فقط، هو حفيد العائلة من ابنها الكبير أحمد.
تقاوم زوجته الجوع، محاولة إرضاع طفلها الجديد، وتغالب أيضا وجعها بعد أن خضعت لعملية ولادة قيصرية.
تحتضن طفلها بين ذراعيها كأنها تستمد من برائته شيئا من الأمان المفقود، قائلة: "كل يوم زي التاني، بصحى برضع ابني، ولما بدي أفوت دورة المياه لازم زوجي يساعدني عشان أقدر أقوم".
تشير السيدة بذلك إلى تحديات يومية مركبة تواجهها في فترة النفاس، ومنها انعدام سبل الراحة اللازمة لها مثل السرير، وكذلك وجود دورة مياه مناسبة، حيث تعتمد العائلة على كرسي حديدي يعلو جردلا لقضاء الحاجة.
يضاف إلى ذلك، عدم توفر ما تحتاجه من الغذاء لتعويض جسمها بعد عملية الولادة، وأيضا مصاعب الحصول على حفاضات لطفلها مع ارتفاع ثمنها (الحفاضة بخمسة شواقل فما فوق).
تلخص حالها بالقول: "أنا ولدت قيصري ونمت على هادي الفرشة.. مفش تخت ولا حمام ولا غذاء مفش مقومات الحياة.. ولسة عمليتي ملتهبة، والخيمة مفش فيها نضافة وسببت حساسية للولد الصغير".
إلى جانبها، يجلس طفلها الآخر (خمسة أعوام) الذي يعاني من "الضمور"، ويطلب يوميا منها الطعام مثل الدجاج أو السمك، بلا حول لها ولا قوة.
لكن هذا ليس كل شيء، إذ إنها فجعت باستشهاد طفلتها في إثر اختناقها بقنابل دخانية ألقتها قوات الاحتلال على النازحين في إحدى مراكز الإيواء بجباليا.
زوجها أحمد طريح الفراش أيضا. بعد استشهاد طفلته توجه إلى حي الشيخ رضوان لاستخراج شهادة وفاة، وفي سوق الحي ألقت عليه طائرة إسرائيلية من نوع "كواد كابتر" قنبلة أصابت الشريان الرئيس في قدمه اليسرى.
عريس مع وقف التنفيذ
أما "دينامو العائلة" وهو "حمادة" الابن الأصغر لعمران، يقضي ساعات يومه في مساعدة الجميع على تدبير متطلبات البقاء، ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
يقول بصوت منهك وتعابير وجه مرهقة: "أنا قائم بأربع أسر.. أنا اللي بجبلهم المية.. الحياة صعبة.. وبنعاني من النزوح المتكرر".
يكتم حمادة في نفسه حزنا عميقا، فقد عقد قرانه قبل عام وثلاثة أشهر، دون أن تمكنه الحرب المستمرة من إيجاد مكان للزواج.

يشير الشاب بيديه إلى الردم المحيط به، مبديا خشيته من أن ينهال على العائلة، قائلا: "أنا خاطب وبسبب النزوح المتكرر مقدرتش أجيب خطيبتي... كل ما آجي أجهز وضعي بيهدموا (المحتلين) كل اشي وبالآخر صفينا على باب المسجد المدمر ومقدرتش أوفر مكان أتزوج فيه".
يوما بعد يوم، يعيد كل أفراد العائلة روتين كابوس العيش اللاآدمي، تسرق الحرب أعمارهم وحقوقهم وأحلامهم، والأنكى من ذلك، أنهم على موعد كل صباح مع مزيد من الألم، إن بقوا على قيد الحياة.

