ثمة مواقف يصرُّ المرء عليها إصرارًا غير مسبوق, جاهلًا ما هو مختبئ بين ثنايا اندفاعه المفاجئ نحوها, وكما يقال "الناس لا يمشون على هذه الأرض إلا في دروب أقدارهم" وإن قست عليهم أحيانًا, تمامًا كما حدث مع الشاب محمد اشتيوي (21 عامًا), الذي أصرّ على أمه ذات نهارٍ حار في منتصف مايو الماضي الذهاب مع أصدقائه إلى البحر للاصطياف, فلم يلقَ منها قبولًا لأن والده غير موافق، كما أن الصيف ما زال في بدايته حينها حيث لا يوجد منقذون, إلا أن محاولاته معها بالإقناع دفعتها للقبول مضطرةً نزولًا عند رغبته.
قبول والدته كان مشروطًا بعدم السباحة في البحر, ورغم أن محمدًا أبدى موافقةً على ذلك إلا أنه لم يفعل حيث جمع ملابس السباحة وألقاها من شرفة المنزل لأصدقائه بالشارع، ليذهبوا باندفاع الشباب دونما معرفة ما يُخبئه القدر لهم هناك.
قلبٌ حيّ
تتغير ملامح فوزي اشتيوي "والد محمد" وهو من سكان الزيتون شرق غزة، من الترحاب في استقبالنا وهو يبدو "بسيط الحال" في مظهره إلى بعض التجهم الذي لا يخلو من صفق كفيه كفًا على كف تحسرًا على شباب ابنه الذي يذهب سدى يومًا بعد يوم دونما علاج، وذلك أثناء روايته لنا ما حدث مع محمد في ساعةِ "طيش" شبابية لم يكن يدرك فيها أنها سترديه طريح فراش ليغدو مريضًا يحيا على تغذيةٍ قسرية دونما يعرف للطعام مذاقًا.
وبالعودة إلى مجريات الحادثة، فبعد قليلٍ من ذهاب محمد إلى البحر جاء اتصالٌ لوالده أربك ملامح وجهه، يقول أبو محمد لـ"فلسطين": "قيل لي في اتصالٍ من مستشفى الشفاء ابنك محمد في المشفى نتيجة جرحٍ بسيط في قدمه, فسألتهم هل أحضر؟ قالوا: "آه, تعال ضروري", وفيما أثارت في قلبه كلمة "ضروري" الشك, فلم يلبث حتى قطعها اليقين عندما جاءه اتصال آخر في ذات اللحظة يُخبره بأن ابنهم قد غرق في البحر, في تلك اللحظات لم يتمالك أبو محمد مشاعره المتّقدة على نار القلق فذهب منكبًا على وجهه إلى المشفى.
والدموع تلمع في عيونه على وشك الانهمار يُكمل أبو محمد حديثه معنا: "تفاجأت بوجود كل أفراد عائلتي هناك صغيرهم وكبيرهم يبكون وبعض الصرخات كانت قد علت في المكان وأنا أدور حولهم بسؤالي اليتيم الممتلئ بالخوف "أين محمد؟!", فكانت الإجابة: "محمد في العناية المركزة", ورغم الحراسة الشديدة الموجودة هناك والتعليمات الواضحة بعدم دخول أي شخصٍ غير الأطباء إليها؛ إلا أن ذلك كله لم يمنعه من الدخول حيث فلذة كبده, فليس أشد رعبًا على المرء من الموت حين يُهدد أحب الناس إليه.
عندما دخل أبو محمد إلى غرفة العناية المكثفة كان الأطباء في اللحظات الأولى لإسعاف الغريق ومحاولتهم عبر الصعقات الكهربائية بإعادة الحياة إلى قلبه بعدما توقف _حيث نزل "محمد" في عمق لا يقل عن ثلاثة أمتار داخل بحر غزة؛ ما أدى لتوقف قلبه_، في تلك اللحظة الفاصلة بين الحياة والموت وبينما كان فؤاد والده يرجف قلقًا وعيونه شاخصة بولده انتفض أخيرًا جسد محمد وعاد القلب للعمل.
دموع الرجال
ماذا حدث بعدها يا أبا محمد؟!, لم يرد على سؤال "فلسطين" مباشرةً وحلق بعنينه إلى السماء ليُخفي دموعه التي صارعها من بداية الحوار دونما جدوى, مؤلمة هي دموع الرجال _عزيزي القارئ_ تعتقد أن أحدهم جبلًا لا يركع ولا يلين, ثم إذا ما انهمرت دموعه تذكرت أنه إنسان وأنه كان يتحامل على نفسه لفترة طويلة, فبكاء الرجال ليس ضعفًا, "لأنهم لم يبكوا في لحظات كان يجب عليهم أن يذرفوا الدمع فيها فيتحاملون على أنفسهم".
وهو ينظر إلى ابنه طريح السرير الأبيض حيث يُعاني من غيبوبة يقظة، يُردف: "بعدها تم نقل محمد إلى قسم العناية المكثفة في الطابق العلوي من المستشفى, وكنا نسترق النظرات إليه بالدقائق المعدودة كل 24 ساعة", وبعد مكوث الغريق 15 يومًا في العناية تحت أجهزة التنفس الصناعي والمراقبة الدائمة استقر وضعه الصحي ليُقرر الأطباء نقله بعدها إلى مستشفى الوفاء الطبي.
وبدا أبو محمد مستاءً خلال حديثه من عدم إجراء أي "صور أشعةٍ" للصدر والدماغ بعد حادث الغرق, كما أن كانت أذناه مليئتان بالرمال بعد 18 يومًا من الحادث.. "أين هم من ذلك؟!" يتساءل بكثيرٍ من الانزعاج عن هذا.
وكان محمد قد تعرض لضربةٍ في الرأس أثناء عملية إنقاذه من البحر عبر "حسكة" ولم يكتشف الأطباء ذلك طوال الفترة التي قضاها محمد قابعًا في العناية المركزة؛ إلا أن والده انتبه لها مصادفة من خلال البروتوكول المعمول به في مشفى الوفاء الطبي وهو أن يتم حلق شعر المريض كنوع من النظافة الشخصية ومن خلال ذلك تعرفوا على ضربة الرأس وأجروا صورة له للاطمئنان عليه.
خلال الثلاثة أشهر الأولى من مكوث "محمد" في مستشفى الوفاء الطبي كانت بوادر التحسن تبدو بالظهور عليه شيئًا فشيئًا، فإذا جلست مقابلًا له فإنك ستتحدث إليه بلا شك لِما توحيه لكَ عيناه من نظرات تظنه فيها ينظر إليك، وإذا ما اقترب والده منه مُحدِثًا إياه عن ذكرياتهما معًا وذكريات العائلة، فلا تستغرب إن وجدت وجنتيه قد بللتهما الدموع، ثم إنه يتألم إذا اختبرت خلاياه الحسية بـ"لدغة" لجسده الرياضي، وما إن تناديه بصوت عالٍ فإن جسده ينتفض مُعلنًا الحياة رغم أنف سوء الحال وقلة العلاج وغلاء ثمنه.
رعاية دائمة
طلبنا مقابلة الطبيب المعالج والمشرف على حالة الشاب محمد إلا أنه لم يكن متواجدًا في المستشفى وقتئذٍ, لنعاود المجيء في اليوم التالي لمقابلته؛ يقول د. أيمن عنبر: "حالة محمد تُعد من الحالات الصعبة في المستشفى؛ فهو يُعاني من غيبوبةٍ عميقة نتيجة تعرضه للغرق في مياه البحر ومكوثه لفترة طويلة تحت الماء, والغيبوبة ناتجة عن نقص الأكسجين الذي سبّب تلفا في الدماغ".
وعن سؤالنا بمدى التلف الحاصل في الدماغ ؟! يُجيب :" لا يمكنني الحكم إن كان تلف كلي أو جزئي لأن المريض لم يفق من غيبوبته بعد منذ وقوع الحادث".
ويوضح عنبر أن حالة اشتيوي تشهد تحسنا أحيانًا واستياء في أحيان أخرى, متابعًا: "نحن هنا في "التأهيل الطبي" نعمل على أن يكون هناك استقرار في الحالة ونقوم بالحفاظ عليها على أمل أن نشهد تقدمًا ملموسًا ونقدم له بعض المنشطات، إضافة للرعاية الصحية على مدار الساعة".
وأشار الطبيب المعالج إلى أن المريض لا يتنفس بشكل طبيعي بل عن طريق أنبوب رغامي, والتغذية عن طريق أنبوب مَعدي, مستطردًا بالقول: "تواصلنا مع أخصائيّ جراحة المخ والأعصاب وتم الاتفاق على أنه لا يوجد لديهم أي طريقة تساعد على إيقاظ المريض فنحن لا يمكننا إلا أن ننتظره ليستيقظ بنفسه", ثم استدرك بالقول أسفًا: "ومن الممكن ألا يستيقظ".
وبيّن أن جلسات الأكسجين المضغوط يمكن أن تساعد في علاجه، ولكن ليست هي الحل الأمثل نتيجة لمكوثه فترة طويلة تحت الماء ما أدى إلى تلف خلايا في الدماغ لا يمكن أن تتجدد، إضافة إلى استمرار وضعه في الغيبوبة دون أن يستيقظ لكل تلك الشهور الماضية.
بادرة أمل
وبينما أُثقل قلب "الخمسيني" أبو محمد بالألم وهو يصف كم الإحباط الذي أشبعه به أطباء غزة _على حدِ قوله_ فمنهم مَن كان يقول له أحضر معك الكفن في المرة القادمة، ومنهم مَن استغرب ملازمته له طوال الوقت مُبديًا تعجبه وهو يقول "روح عالبيت وبكرة بتيجي تاخده" في إشارة إلى أخذه "ميتًا"، وطبيب آخر يضخ في أوردته اليأس قائلًا: "ابنك امصبح امسي" قاصدًا بها أن أنفاسه في الحياة معدودة ويمكن أن يتوفاه الأجل في أي لحظة، إلا أن توردًا علا وجنتي "أبو محمد" وهو يذكر أن أحد الأطباء وهو د.إيهاب موسى منحه الأمل وأخبره عن علاج متوفر في غزة لابنه لكنه غالي الثمن.
ذهبنا لزيارة دكتور الأمراض العصبية إيهاب موسى؛ فشرح حالة محمد التي اطلّع عليها مسبقًا وقال: "أجريت لمحمد صورة رنين مغناطيسي تبين فيها أنه نتيجة غرقه بالماء المالح أصبح عنده توسعات في الحجرات الدماغية الأمامية، ومشكلة في الجزء الخلفي من الدماغ المسؤول عن التوازن والنطق لكنه لم يصل إلى مرحلة الضمور الكامل وبالتالي يمكننا إسعاف ما أمكن إسعافه".
وعوّل موسى إيجابًا على خطوة إعطاء محمد جلسات من الأكسجين المضغوط قائلًا: "الضمور الموجود عند محمد الآن, لو تعالج بالأكسجين المضغوط سيكون خطوة إيجابية نحو العلاج؛ فهناك خلايا تالفة لا يمكننا التعامل معها؛ وهناك خلايا ذابلة أو ساكنة يعمل الأكسجين على تنشطيها، لكنه سيسبب له إعاقة حركية فقط ناتجة عن تلف بعض الخلايا السابقة الذكر والإعاقة تكون كعدم توازن بالحركة، وليس إعاقة دماغية فيمكنه بإذن الله أن يستيقظ ويتعرف على من حوله".
ويتم التعرض للأكسجين المضغوط من خلال جهاز يوضع فيه المريض ويتعرض لمضخات من الأكسجين _وهو غير متوفر في مجمع الشفاء الطبي بالطبع وإنما في مراكز متخصصة"، وبحسبِ "موسى" فإن محمد الآن يتنفس بنسبة 25% من الغلاف الجوي وهذا الأكسجين الطبيعي لا يصل إلى الدماغ؛ لذلك هو لم يزل في غيبوبة، ولكن بالأكسجين المضغوط سيكتسب ضعف تنفسه الطبيعي عشرة مرات حتى يصل الأكسجين للدماغ.
ولفت د. موسى في حديثه إلى أن رحلة العلاج مع محمد لن تقل عن العام وهو بحاجة لـ120 جلسة, مبينًا أن الجلسة الواحدة من الأكسجين المضغوط ستكلف 100 شيكل عدا عن العلاجات الدوائية المصاحبة لها.
وتأمل عائلة المريض محمد اشتيوي التي تُعاني أوضاعًا معيشية صعبة أن تجد من يِقف معها ماديًا ومعنويًا لإعطاء ابنهم فرصة للحياة مرة أخرى ويُحقق أحلامه كأي شابٍ على هذه الأرض.