كان يملك مكتبة تضم خمسة آلاف كتاب، بدأ رحلته في تجميعها عام 2001، فكان يشتري الكتب من مصروفه الشخصي، ويعود مشيًا على الأقدام إلى منزله. لكل كتاب قصة وذكرى. لم تكن المكتبة عادية، بل كانت وطنه وملاذه اليومي، يقضي فيها نحو 15 ساعة يوميًا، ولا يقوم عن الكتب إلا للصلاة، وكأنه تجذّر بين تلك الصفحات والأوراق التي أصبحت سنواتٍ من عمره، خزّنها بين الأغلفة. سمّاها "منارة العلم الشرعي"، وكانت أبوابها مفتوحة لكل طالب علم، وكلما زاد عدد الزائرين زادت سعادته.
في الحرب، غادر د. عبد الله مقاط مكتبته الواقعة في حي التفاح شرق مدينة غزة. غادر وطنه الصغير إلى وطن أكبر، مدركًا أن "الحروف على عظَمها لن تُطعم الجائعين الآن". كرّس جلّ وقته لخدمة الفقراء والنازحين، من خلال تكية خيرية أسّسها لإطعام 150 عائلة تقطعت بها سبل الحياة. وعلى مدار الوقت، كان يشغّل بئر المياه الخاص بعائلته ويزوّد الجيران ومخيمات النزوح بالماء.
أُصيب هو ونجله عبد المعطي (15 سنة) في ديسمبر/كانون الأول 2023، لكنه لم يتراجع، وظلّ قريبًا من الفقراء والنازحين حتى قصفت طائرات الاحتلال منزله، في مجزرة دامية وقعت عند الساعة الثانية فجر 18 مايو/أيار 2025، استُشهد فيها 13 فردًا من العائلة وأُصيب 10 آخرون.
مجزرة دامية
يوم المجزرة، استيقظ ابن عمه كاظم مقاط على وقع انفجار قريب، للحظةٍ غلبه النعاس، قبل أن توقظه زوجته قائلة: "أختك سلوى جاية!"، ما دفعه للانتباه، رابطًا قدومها بصوت الانفجار الذي سمعه قبل دقائق. رآها مغبّرة، مصابة برضوض، جاءت تمشي بلا حذاء وتصرخ مذعورة: "قصفونا!".
يقول كاظم لـ "فلسطين أون لاين" بأسى: "عندما أخبرتني أن بيت عمي هو المستهدف، أُغمي علي، ولم أفق إلا في الصباح".
استُشهد في المجزرة الحاج عبد المعطي صبحي مقاط (63 سنة) وزوجته شفاء أحمد مقاط (61 سنة)، ونجلهما د. عبد الله عبد المعطي مقاط (42 سنة) وزوجته سناء (38 سنة) وأبناؤهم: آلاء (18 سنة)، وهبة الرحمن (13 سنة)، وعائشة (10 سنوات). نجا ابنهم الوحيد عبد المعطي (15 سنة)، الذي يعيش اليوم وحيدًا بعد رحيل أسرته، مصابًا بحروق وشظايا. وكانت هذه المرة الثانية التي ينجو فيها الفتى، ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2023، نجا من قصف طائرة مسيّرة بينما كان يسير مع والده.
في المجزرة ذاتها، استُشهد محمد عبد المعطي مقاط (35 سنة) وزوجته هناء (34 سنة) وأطفالهما: عبد الرحمن (10 سنوات)، ورامي (7 سنوات)، كما استُشهد الطفل خالد عبد الشكور مقاط (3 سنوات)، والعريس حمزة عبد المعطي مقاط (23 سنة)، الذي كان يستعد لحفل زفافه.
يقول ابن عمه: "حاول حمزة تحويل المكتبة التي حرقها الاحتلال إلى بيت، وكان يشارك خطيبته كل تفاصيل حياته. كان يسعى لتكوين أسرة، لكن الاحتلال قتل فرحتهم".
باستشهاد عبد الله مع والده وزوجته وأطفاله وإخوته وزوجاتهم وأبنائهم، تلاقت روحه مع حروفه التي أحرقها القصف.
على مدار سنوات من البحث واقتناء الكتب، حفظ د. عبد الله أسماء الكتب وعدد مجلدات كل منها، وكان يعرف أماكنها دون الحاجة لترقيم أو أجهزة، في ارتباط استثنائي مع تلك الصفحات التي خزن مواقعها في قلبه وذاكرته.
عندما كتب منشورًا عن احتراق مكتبته وتجريف أرضه في ديسمبر/كانون الأول 2023، كان يشيّع جزءًا من روحه. كانت الكتب امتدادًا لروحه، ووسيلته للارتقاء العلمي، وقد حصل عبرها على درجة الدكتوراه. وجد فيها سلواه، ووسيلته لنقل المعرفة إلى الأجيال.
رماد يسكنه الصمت
في صورة نشرها بعد حرق مكتبته، التهمت النار الصفحات، وقبل أن تصل إلى الورق، كانت تحرق قلبه. تحوّلت المكتبة التي كانت تنبض بالحروف وتلمع بأغلفتها إلى رماد يسكنه الصمت والسواد.
عايش ابن عمه، وهو شقيق زوجة الشهيد، ذلك الشغف عن كثب. يقول: "كان عبد الله يشتري الكتب من الخارج، وتأثر بمحاضريه في الجامعة الذين كانت لديهم مكتبات خاصة. كان مرجع العائلة في الأمور الشرعية، ومرّت عليه فترات كان يلازم المكتبة يوميًا، وأحيانًا يشتري الكتب بمئات الدولارات".
وقبل الحرب، ورغم الحصار وصعوبة الوضع المعيشي، بحث عن عمل في الجامعات، لكنه لم يجد فرصة، رغم حصوله على درجتي ماجستير في الحديث والفقه، ودكتوراه في الحديث الشريف.