بينما تجري مفاوضات مكثفة في العاصمة القطرية الدوحة، يحاول الاحتلال الإسرائيلي بقيادة نتنياهو التلاعب بالمشهد السياسي والإعلامي، مستخدمًا روايات مضللة هدفها امتصاص الضغوط المتصاعدة داخليًا وخارجيًا، دون إبداء نية حقيقية لإنهاء الحرب أو الدخول في اتفاق شامل وعادل.
خلال الأيام الأخيرة، كثّف الإعلام العبري تسريباته حول تفاصيل المفاوضات، مدّعيًا تقدّمًا ميدانيًا وضغوطًا عسكرية دفعت المقاومة للجلوس إلى الطاولة. لكن الواقع مختلف تمامًا، فحماس كانت ولا تزال منفتحة على جهود الوسطاء، شريطة أن يكون وقف الحرب والانسحاب الكامل من غزة هو الإطار الأساس لأي اتفاق.
ما ينشره الاحتلال لا يعكس واقع المفاوضات، بل يخدم هدفًا داخليًا بحتًا: امتصاص الغضب الشعبي المتزايد داخل “إسرائيل”، والتخفيف من الاحتقان الناتج عن فشل العمليات العسكرية وعدم عودة الأسرى حتى الآن.
في السياق الدولي، يواجه نتنياهو عزلة غير مسبوقة. المواقف الأوروبية الأخيرة، خصوصًا من إسبانيا وفرنسا والبرتغال، حملت رسائل قوية تطالب بوقف العدوان، بل وذهبت إلى ما هو أبعد، بدعوات إلى مقاطعة عسكرية ووقف تجارة السلاح مع إسرائيل، وهو تطور نوعي يضع حكومة الاحتلال في مأزق أخلاقي وسياسي، ويكشف حجم التراجع في الدعم الدولي الذي كانت تتكئ عليه تل أبيب لسنوات.
أمام هذا الواقع، يحاول نتنياهو المناورة بطرح صفقة جزئية محسّنة، يُخرج من خلالها أكبر عدد ممكن من الأسرى الإسرائيليين، مقابل الحد الأدنى من التزامات وقف الحرب. بل ويطرح شروطًا تعجيزية من قبيل نزع سلاح المقاومة، أو ترحيل قياداتها خارج غزة، وهي مطالب يدرك هو شخصيًا أنها غير قابلة للتحقيق، لكنها تخدمه في مخاطبة اليمين المتطرف داخل حكومته، وتقديم نفسه كمن “استنفد الخيارات”، دون التنازل عن خطوطه الحمراء.
وإن كان قد صرّح مؤخرًا باستعداده لـ”وقف إطلاق النار كطريق لإنهاء الحرب”، فإن هذه التصريحات تأتي مشروطة بمطالبه ذاتها، ما يفرغها من مضمونها، ويحوّلها إلى مجرد خطاب استهلاكي يهدف إلى كسب الوقت وتخفيف الضغوط، لا سيما مع تفاقم الأزمة الإنسانية في غزة واستمرار المجازر التي أصبحت تثير ردود فعل حادة على مستوى الرأي العام العالمي.
في المقابل، تقف المقاومة الفلسطينية بثبات على رؤيتها: لا تفاوض دون وقف العدوان، ولا تسويات على حساب الدم الفلسطيني. الموقف واضح: اتفاق شامل، يوقف الحرب، ويضمن انسحاب قوات الاحتلال من القطاع، وبدء عملية إعمار حقيقية دون شروط إذلال. وهذا ما تؤكده مواقف الفصائل مجتمعة، والتي لا ترى في أي تفاهم جزئي سوى محاولة للالتفاف على المطالب الفلسطينية وشرعنة استمرار الاحتلال تحت مسميات تفاوضية.
الساعات القادمة ستكون حاسمة في اختبار مدى قدرة الوسطاء على كبح مراوغة الاحتلال، ودفعه نحو اتفاق حقيقي، لا مجرّد صفقة تخدم نتنياهو سياسيًا. كما أن الرأي العام العربي والدولي مطالب بلعب دور ضاغط وحاسم، لمنع فرض اتفاقات هشة، أو إعادة تدوير الحرب على شكل هدنة طويلة بلا ضمانات.
الخلاصة أن معركة المفاوضات اليوم لا تقل أهمية عن معركة الميدان. وإذا ما استطاع الفلسطينيون الصمود على طاولة التفاوض كما صمدوا تحت القصف، فإن مشروع نتنياهو سيفشل سياسيًا كما فشل ميدانيًا.

